24 شباط 2022: بوتين يصدم العالم؛ وعلى الأرجح المقرّبين منه. أوروبا وجدت نفسها أمام مشاهد لم تتخيّل حدوثها في القرن الواحد والعشرين. أميركا حذّرتها مسبقاً، لكنّ بروكسل تجاهلتها. سرعان ما صدم بوتين العالم مرّة أخرى. هذه المرّة، كان بوتين جزءاً من هذا العالم المصدوم. جيشه يقع في أخطاء بدائيّة وليس واضحاً حتى ما إذا كان يتعلّم منها. لمّا يكشف النزاع عن جميع أوراقه بعد، لكن يمكن استنتاج الكثير من الدروس التي أفصح عنها العام الأوّل من الحرب. هذه بعضها:
الدبّ جائع وجريح... جروحه خطرة
"المبتدئون يتحدّثون عن الاستراتيجيّات والمحترفون عن اللوجستيّات." هذه أبرز جملة ركّز عليها الخبراء العسكريّون حين حاولوا تفسير سبب فشل الجيش الروسيّ في إنجاز مهمّته سريعاً. قبل غزو أوكرانيا كانت غالبيّة المقارنات بين قوّتي الجيشين الروسيّ والأوكرانيّ تجري على أساس عدديّ وحسب. هو معيار أساسيّ لكن غير كافٍ.
في الواقع، قد لا يكون الأهمّ حتى. من دون اللوجستيّات، لا يمكن لأيّ جيش أن يستديم عمليّاته. أحد أهمّ أسباب سوء أداء الجيش الروسيّ فوق الميدان سوء إمداداته واتّصالاته. تُركت دبّابات ومركبات روسيّة كثيرة بسبب افتقارها للوقود وقطع الغيار. في 2021، توقّع الضابط الأميركيّ السابق للنمذجة والمحاكاة في مجال تطوير المفاهيم اللفتنانت-كولونيل أليكس فيرشينين العقبات التي ستواجه الجيش الروسيّ في حال قرّر شنّ غزو واسع النطاق. كان عنوان مقاله "إطعام الدب: نظرة أقرب إلى لوجستيّات الجيش الروسيّ والأمر الواقع." توقّع أيضاً بعض محلّلي مؤسّسة "راند" مواجهة الجيش الروسيّ للمشاكل. لكنّهم قالوا بعد عام إنّهم لم يتوقّعوا أن يكون الأداء بهذا السوء.
الرتل العسكريّ الروسيّ الذي قضى أسابيع بلا تحرّك شمالي كييف قبل أن يعود أدراجه أظهر سوء الاستعداد اللوجستيّ لروسيا (أب عن ماكسار).
ينعكس سوء اللوجستيّات الروسيّة على مضمار حيويّ آخر في الحرب. بسبب تمتّع الجيش الأوكرانيّ بدعم صحّيّ أفضل، تبدو خسائرها البشريّة أقلّ من الخسائر الروسيّة. بحسب التقديرات الغربيّة، فقدت روسيا نحو 200 ألف جنديّ بين قتيل وجريح، لكنّ أوكرانيا فقدت نحو 100 ألف فقط. نظرة أدقّ إلى الأرقام تكشف واقعاً أكثر سوءاً للروس: تخسر روسيا قتيلاً بين كلّ ثلاثة جرحى، بينما يسقط لأوكرانيا قتيل بين كلّ 15 جريحاً كمعدّل عام.
الميدان يفنّد الدعايات
تحدّث الإعلام الروسيّ عن قوّة الأسلحة العسكريّة التي تصنّعها موسكو وإثارتها "الخوف" في نفوس الغرب. لكنّ الأرض كشفت نقاط ضعف كثيرة، إن لم يكن مبالغات، بالنسبة إلى المشترين المحتملين. في جنوب شرق آسيا مثلاً، تحتلّ روسيا المرتبة الأولى من حيث صادرات الأسلحة متفوّقة حتى على الولايات المتحدة. بعد الحرب على أوكرانيا، من المتوقّع أن تنخفض هذه الصادرات بفعل العقوبات وصعود الصين وحاجة روسيا إلى ملء مخزوناتها، لكن أيضاً بفعل صور الدمار التي لحقت بالآلة الحربيّة الروسيّة ومن بينها "سو-35"، إلى جانب غياب الابتكار. وفشلت منظومتا "أس-300" و"أس-400" في إيقاف هجمات أوكرانيّة بعيدة المدى من بينها لصواريخ "هيمارس"، علماً أنّ تقارير تقول إنّ هذه المنظومات غير مصمّمة أساساً لاعتراض الصواريخ الموجّهة.
منظومة "هيمارس" ساعدت أوكرانيا على استهداف مراكز روسيّة حسّاسة (أ ب)
كذلك، عانت الصواريخ والقنابل الروسيّة الذكيّة في إصابة أهدافها. خلال الشهر الأوّل من الحرب، وصلت نسبة فشل هذه الأسلحة إلى 60% (بحسب نوع الصواريخ) وفق ما نقلته "رويترز" عن ثلاثة مسؤولين أميركيّين. وفي حديث سابق مع "النهار"، قال الباحث في التكنولوجيا العسكريّة في "المعهد الفيديراليّ السويسريّ للتكنولوجيا" الدكتور ماورو جيلي إنّ الصناعات الدفاعيّة الروسيّة تعاني على مستوى الإلكترونيّات. يبدو أنّ الحرب الحاليّة تؤكّد هذا الاتّجاه. اللافت أنّه حين كان بايدن يزور كييف، فشلت روسيا في اختبار صاروخ بالستيّ، بحسب الولايات المتحدة.
العدد هو نوعيّة بحدّ ذاته
تملك أوكرانيا تفوّقاً نوعيّاً على روسيا في مجالات عدّة. لكن على مستوى القوّة البشريّة تميل كفّة الميزان لصالح الروس. تصريح أنّ للعدد خاصّيّة نوعيّة بحدّ ذاتها منسوب إلى الزعيم السوفياتيّ السابق جوزف ستالين بالرغم من أنّ الأدلّة على ذلك ليست صلبة. (قد يكون مستمدّاً من الديالكتيك الماركسيّ الذي يجد جذوره في فلسفات سابقة). على أيّ حال، يظهر أنّ موسكو تستفيد من هذه الميزة. ترسل روسيا قواتها على شكل "موجات بشريّة" إلى الخطوط الأماميّة. يعاني المقاتلون الروس المرسَلون إلى الجبهات من سوء التدريب. هذا أحد أسباب الخسائر البشريّة الكبيرة التي تمنى بها روسيا. غير أنّ إرسال الأعداد الكبيرة من المقاتلين يجبر الأوكرانيّين على استنفاد ذخيرتهم كما يمكّن المجنّدين من تحصين الخنادق في الشرق. يصعّب هذا بدوره إمكانيّة شنّ الأوكرانيّين هجمات إضافيّة. بالفعل، بعد إعلان التعبئة الجزئيّة في أيلول، استقرّت الجبهة بين الروس والأوكرانيّين، بل إنّ القوّات الروسيّة تتمكّن من تحقيق تقدّم بطيء لكن ثابت حول منطقة باخموت. لكنّ الحكاية لا تنتهي هنا.
راجمات "غراد" الروسيّة تقصف مواقع أوكرانيّة (أ ب)
أوّلاً، ليس إرسال أعداد إضافيّة من الجنود حلّاً بعيد المدى. ويبدو أنّ أوكرانيا تكوّن قوّة احتياط جديدة. قد ترسلها إلى المعركة لحظة وصول الدبابات والمركبات الغربيّة من أجل شنّ هجومها. إذا كان ذلك صحيحاً فقد يواجه الروس مشكلة كبيرة في الأشهر القليلة المقبلة. مشكلة ستتضاعف إن صحّت أيضاً معلومات أنّ الهجوم الروسيّ المتوقّع قد بدأ فعلاً، وفوليدار أبرز ساحاته. هناك تكبّد الروس مئات الضحايا، إن لم يكن الآلاف منهم.
Des tanks qui sautent sur des mines, ou pris pour cible par l’artillerie ukrainienne, des soldats qui courent en tous sens : l’offensive russe sur Vuhledar, chère à Poutine, ressemble de plus en plus à un fiasco. pic.twitter.com/mhesFoN1CQ
— Virginie Landry (@virginiealandry) February 14, 2023
الجيش الروسيّ يتكبّد خسائر كبيرة في فوليدار بحسب الفيديو.
ستالين محقّ بشأن أميركا
بالحديث عن الزعيم السوفياتيّ الأسبق، ثمّة توصيف أطلقه على الولايات المتحدة يخصّ قدراتها العسكريّة الهائلة: "الولايات المتحدة دولة آلات". قال ستالين ذلك حين كانت الولايات المتحدة تمدّه بالأسلحة لقتال النازيّين. فضمن "قانون الإعارة والتأجير" أرسلت واشنطن إلى موسكو 400 ألف شاحنة وسيّارة رباعيّة الدفع و14 ألف مقاتلة و8 آلاف جرّار و13 ألف دبابة وملايين الأطنان من القطن والمنتجات الغذائيّة والبتروليّة.
استمرّت المساعدات من سنة 1941 وحتى نهاية الحرب العالميّة الثانية وبلغت 11 مليار دولار في ذلك الحين أو نحو 180 مليار دولار بأرقام اليوم. ثمّة خلاف بين المؤرّخين الروس عمّا إذا كان بإمكان الاتّحاد السوفياتيّ الفوز من دون المساعدة الأميركيّة. في وقت يقول معظمهم إنّها "لم تكن حاسمة"، كان لستالين حينها رأي مخالف: "أهمّ الأمور في هذه الحرب هي الآلات... الولايات المتحدة دولة آلات. لولا الآلات التي حصلنا عليها عبر الإعارة والتأجير، لخسرنا الحرب."
قصف مدفعيّ أوكرانيّ على مواقع روسيّة (أ ب)
اليوم، تقف أميركا على المقلب الآخر من حرب موسكو. صحيح أنّ واشنطن لا ترسل الدبابات أو المقاتلات إلى أوكرانيا، أو على الأقلّ هي ترسلها بكمّيّات أقلّ وبوتيرة أبطأ في ما يخصّ الدبابات، (هذا إن وصلت "قبل نهاية الحرب") لكن يبقى أنّ للأسلحة الأميركيّة الأخرى بصمة هائلة على الميدان: من صواريخ "جافلين" إلى "هَيمارس" وما بينها، لم يبقَ من غالبيّة الدبابات والمدفعيّة والمراكز العسكريّة الروسيّة إلّا الأنقاض.
الديموقراطيّة تتفوّق... مجدّداً
بالحديث عن الولايات المتحدة، لا يمكن تجاهل الارتباط بين قوّتها العسكريّة وقوّة نظامها الديموقراطيّ. يُظهر بحثٌ شمل الفترة بين سنتي 1816 و1987 أنّ الديموقراطيّات فازت بما يقرب من 76% من الحروب التي شنّتها، ولم تخسر سوى في 7% منها. تلعب الشفافية والنزاهة والصحافة الحرّة دوراً كبيراً في هذه النتيجة المؤثّرة. حتى ولو كانت الجدالات داخل البرلمانات وبين السلطات التشريعيّة والتنفيذيّة تطول في الأنظمة الديموقراطيّة فهي تترك آثاراً إيجابيّة على المدى البعيد بالحدّ الأدنى.
في المقابل، إنّ حجم المداولات داخل أروقة الكرملين عن "العمليّة العسكريّة الخاصّة" لا يبدو ضئيلاً وحسب. ذكرت صحيفة "فايننشال تايمز" نقلاً عمّن وصفتهم بالمسؤولين المطّلعين داخل الكرملين أنّ الرئيس الروسيّ فلاديمير بوتين لم يطلع حتى وزير خارجيّته سيرغي لافروف على قراره بشنّ العمليّة إلّا قبل ساعات على انطلاقها. كان لافروف واحداً من بين قلّة في الكرملين علمت بالحرب قبل شنّها لا بعدها. وتحدّثت الصحيفة أيضاً عن تجاهل بوتين لعدد من مستشاريه وتفضيله معطيات صديقه الأوكرانيّ فيكتور مدفيدشوك وحتى عن مسامحته مسؤولين أخطأوا في جمع المعلومات الاستخباريّة، فقط لكونهم مقرّبين منه.
ماذا عن المرحلة المقبلة؟
إطلاق توقّعات دقيقة بشأن العام الثاني من الحرب على أوكرانيا دونه عقبات. بدأت أوكرانيا تحصل على الدبابات وعربات المشاة القتاليّة. لكن ثمّة مشكلة محتملة يتخوّف منها الخبراء وهي محاولة أوكرانيا إظهار أنّها أهلٌ للحصول على تلك الدبابات عبر شنّ هجمات متسرّعة يمكن أن تنتهي بالفشل. ويمكن أن تعمد روسيا إلى إعلان تعبئة أخرى لإنهاك الدفاعات الأوكرانيّة بشكل أكبر. هذه الاحتمالات موجودة حتى من دون أخذ إمكانيّة دعم الصين لروسيا عسكريّاً بالحسبان.
في المقابل، وعلى عكس روسيا، تبدو ترسانة أوكرانيا العسكريّة آخذة بالتوسّع، أكان على الصعيد الهجوميّ أو الدفاعيّ. وأدّت العقوبات الأميركيّة إلى تقلّص حجم القوّة الناريّة الروسيّة بنحو الثلثين. وثمّة توافق كبير بين المراقبين الغربيّين على أنّ روسيا فقدت الكثير من وحداتها النخبويّة في الحرب ممّا يضع علامات استفهام على إمكانيّة تعويض هذه الخسائر.
الأكيد لغاية اليوم، أقلّه وفق المؤشّرات المتوفّرة، أنّ أوكرانيا تملك نسبيّاً اليد العليا في المرحلة المقبلة.