حين تولى منصبه، حفل جدول أعمال جو بايدن، الرئيس الأكبر سناً في تاريخ الولايات المتحدة، بمهمات صعبة، تعلّق أبرزها بمسألة وجودية: كيف تعيد توحيد صفوف أمة مقسومة بين معسكرين؟
تسلّم بايدن مهمة صعبة بكل المقاييس، متصدياً لكوفيد-19، جائحة تحدث مرة كل قرن، وتوقف النشاط الاقتصادي وسلسلة تحديات جيوسياسية من الصين وإيران وكوريا الشمالية وروسيا.
لكنّ الرجل الذي ألحق الهزيمة به عام 2020، دونالد ترامب، تركه أيضا مع تهديد للديموقراطية غير مألوف منذ السبعينيات على الأقل، وربّما منذ الحرب الأهلية.
قبل أسبوعين من دخوله المكتب البيضاوي، اقتحم حشد من مناصري ترامب الكونغرس في محاولة للحؤول دون المصادقة على نتائج الانتخابات الرئاسية. وبذلت فرق من محامي ترامب ومشرعون مقربون منه جهوداً حثيثة، في محاولة لقلب النتائج عبر طرق إجرائية.
فوق ذلك كلّه، اضطلع بايدن وهو في الثامنة والسبعين، بدور مرهق للغاية، في حين أنه في أوقات طبيعية فإن رئيساً أصغر بثلاثة عقود على غرار بارك أوباما مثلاً، بدا عليه التقدّم في العمر خلال توليه الرئاسة.
ونادراً ما بدت الأمة حينها في وضع هشّ مماثل.
لكنّ بايدن، الناجي من نكسات سياسية لا تُعدّ ولا تحصى ومن مآس شخصية، فاجأ العديد من المشككين بقدراته. فأشرف على مرحلة تعاف ناجحة من كوفيد-19 وانتعاش اقتصادي قوي. وجدّد كذلك تحالفات الولايات المتحدة ضد الصين الأكثر عدائية ويقود استجابة غربية غير مسبوقة رداً على الغزو الروسي لأوكرانيا.
ورغم تعهّده بالعمل لـ"شفاء" الأمة، إلا أن بايدن ذاته يقرّ بأن المهمة لم تنجز بعد.
وقال في كانون الثاني "قلت إنني ترشّحت لثلاثة أسباب". وتابع "أحدها كان استعادة روح أميركا. والثاني إعادة بناء البلاد (..) والثالث توحيد البلد. وتبيّن أن الثالث هو الأكثر صعوبة".
- انتصارات كبيرة -
بالنسبة إلى مؤيديه، بدا أن بايدن هو ما احتاجت اليه البلاد بالضبط بعد ترامب: وسطي بالفطرة ومناصر قديم للخدمة الحكومية ومؤمن بدور الولايات المتحدة كقائد للغرب.
لكنّ ذلك لا ينفي حصول خطوات خاطئة. فسرعان ما تحوّل الثناء المبكر على برنامج التلقيح الجماعي ضد كورونا إلى انتقادات مع اجتياح متحورات جديدة للفيروس البلاد عام 2021.
وتضرّرت سمعة الإدارة لناحية الكفاءة في آب 2021 بعد نهاية مهينة لحرب استمرت عشرين عاماً في أفغانستان.
إلا أنه خلال عامه الثاني في السلطة، رأى بايدن التضخم الهائل وقد بدأ أخيراً في الانحسار والاقتصاد ينمو بقوة وأعادت السياسة الأميركية الجريئة في أوكرانيا المصداقية للسياسة الخارجية.
وقطع بايدن أشواطاً كبيرة لناحية التوقعات الرئيسية من الناخبين الديموقراطيين بشأن البيئة. فأعاد الولايات المتحدة إلى اتفاق باريس للمناخ وحصل على مشروع قانون إنفاق تاريخي أقرّه الكونغرس لبدء تصنيع الولايات المتحدة سيارات كهربائية وغيرها من التقنيات الصديقة للمناخ.
وبين إنجازاته المحلية أيضاً تبني الكونغرس قانوناً بقيمة 1200 مليار دولار لإعادة تأهيل الجسور والطرق وشبكات المياه والانترنت في البلاد، بعد تمكنه من الحصول على تأييد ممثلين للجناح الوسطي في الحزب الجمهوري.
ودخلت رحلته السرية الماراثونية في شباط إلى كييف الغارقة في الحرب، ودفاعه المستميت عن الديموقراطية في خطاب ألقاه بعدها في بولندا، التاريخ. وسلّطت الضوء مجدداً على تمسّكه بأن قيادة الولايات المتحدة للعالم قد عادت.
ويُحسب لبايدن اختياره أول إمرأة وأول سيدة سوداء البشرة ومن جنوب آسيا، كاميلا هاريس، لمنصب نائبة الرئيس، وتسميته أول سيدة سوداء البشرة، كيتانجي براون جاكسون، قاضية في المحكمة العليا.
- انتقادات -
يرى منتقدو بايدن من اليسار في الحزب الديموقراطي الذي ينتمي اليه، أنه غير فاعل في مواجهة اليمين المتشدد المتنامي في صفوف الجمهوريين، في وقت يفشل في تلبية مطالب قاعدته من أجل تغيير اجتماعي ليبرالي أكبر وتغيير ثقافة حرية امتلاك السلاح.
في صفوف الجمهوريين، فإن بايدن مكروه بشدة على غرار كره الديموقراطيين لترامب. تغذّي الهجمات المستمرة على قناة فوكس نيوز صورته كفاشل واهن سمح بتدفق الهجرة غير الشرعية عبر الحدود المكسيكية، واستسلم لوجهات نظر ليبراليين بشأن الهوية الجنسية وسواها من القضايا الاجتماعية الساخنة، وأبعد البلاد عن نظام مالي يعتمد على الأعمال التجارية باتجاه نظام أكثر اشتراكية.
وفي مؤشر يعكس الحقد في المجتمع، لم تتجاوز معدلات قبول بايدن خمسين في المئة منذ عام 2021. ويعتقد غالبية الديموقراطيين أن عليه ألا يسعى إلى ولاية ثانية. وأقرّ بايدن في تموزو 2022 عندما سئل عن التشاؤم المستمر، بأن "الناس محبطون حقاً".
- قدرة على التحمّل -
أمضى بايدن حياته فعلياً يتدرّب لأن يصبح رئيساً، بعدما شغل منصب عضو في مجلس الشيوخ لـ36 عاماً، وفشل لمرتين في الترشح للانتخابات التمهيدية الديموقراطية، ثم أمضى ثماني سنوات نائباً لأوباما.
وبحلول الوقت الذي سعى فيه للفوز بترشيح الحزب الديموقراطي عام 2020، كانت ردود الفعل الأولية لكثيرين، حتى في صفوف حزبه، شطب اسمه باعتباره متقدماً في السنّ ومعرضاً لهفوات.
مع ذلك، واصل بايدن التقدّم في ساحة مزدحمة بالمرشحين الديموقراطيين، قبل أن ينهي المهمة الشاقة إحصائياً ويلحق الهزيمة بالرئيس الجمهوري.
ويقول عارفوه إنهم لم يفاجأوا بذلك. فالسياسي المخضرم كان في التاسعة والعشرين عند فوزه بشكل مفاجئ بمقعد في مجلس الشيوخ عن ولاية ديلاوير عام 1972. بعدها بشهر، توفيت زوجته نيليا وابنتهما البالغة عاماً واحداً في حادث سير. وعدا عن الحداد على زوجته وطفلته، كان عليه الاعتناء بابنين مصابين بجروح بالغة بسبب الحادث ذاته.
رغم ذلك، أعاد بايدن بناء حياته وغالباً ما يتحدث بشكل مؤثر عن رعاية طفليه بينما كان يتنقل بلا كلل بين مجلس الشيوخ في واشنطن ومنزله في ويلمنغتون في ولاية ديلاوير.
في عام 1975، ارتبط بايدن بزوجته الثانية، المدرّسة جيل جاكوبس، وأنجب منها ابنته آشلي. لكنه عاد لاحقاً ومُني بخسارة موجعة عام 2015 عند وفاة ابنه الكبير (46 عاماً) بسرطان في الدماغ، بعدما كان نجماً سياسياً صاعداً.
- الطبقة الوسطى -
بعد عقود أمضاها في واشنطن وجلسات اجتماعية لا تحصى مع أصحاب الملايين، بات بايدن بعيداً جداً عن طفولته البسيطة في مدينة سكرانتون في بنسيلفانيا.
لكن تعاطفه مع الطبقة العاملة وربما أيضاً المآسي التي مرت بها عائلته، ساعدت في جعل السياسي المحافظ شخصاً أكثر وداً.
لم تتغير الصورة الشخصية لبايدن أبداً، فهو لا يزال ملما بسياسات واشنطن، ويملك خبرة لا مثيل لها في شؤون الحكومة والسياسة الخارجية. لكنه أيضاً ابن الطبقة الوسطى، القيادي الذي يعرف ما يمر به شخص عادي في حياته.
وفيما يبدو بايدن مملاً مقارنة بترامب أو بمنافسيه الأصغر سناً، إلا أنه في مرحلة يزداد فيها التطرف قد يكون اعتداله مصدر قوته السياسية.