خفت زخم التحرّكات الاحتجاجية في إسرائيل، بعدما أرجأ رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو إقرار خطّة "الإصلاح القضائي"، التي شكّلت شرارةً، دفعت الإسرائيليين إلى الشارع، علماً بأن مراقبين يرون في انتفاضة الشارع واجهة لأسباب غير مباشرة، محورها الأزمة السياسية العميقة التي تواجهها تل أبيب منذ ثلاث سنوات.
لكن انكفاء الإسرائيليين الموقّت عن المواجهة الجدّية مع حكومة نتنياهو لا يعني عودة إسرائيل إلى المسار السياسي السليم، خصوصاً أن الحكومة ووزراءها، وعلى رأسهم إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش، يكنّون من التطرّف ما يكفي لتعزيز الانقسام الحاصل بين الإسرائيليين، ولتقليب الرأي العام ضدهم، ممّا سينعكس على الكنيست بشكل أو بآخر في الانتخابات المقبلة، وقد يُطيح بهم، فتعود إسرائيل إلى دوامة الفراغ السياسي وتبديل الحكومات.
ويرى مراقبون أن صواريخ "حماس" من جنوب لبنان قد تكون عاملاً إضافياً للتخفيف من حدّة الحركة الاحتجاجية، إذ ذكّر الإسرائيليين بخطورة الانقسام الداخلي في ظل التحدّيات الخارجية.
في الواقع، تخطّت الأزمة في إسرائيل حدود الاعتراض على خطّة "إصلاحية" تنقل الصلاحيات من القضاء إلى الحكومة، وباتت بمثابة أزمة حكم لم تشهدها إسرائيل في تاريخها الحديث، بل وضعتها أمام خطر حرب أهلية. وللإشارة، فإن ما يحصل اليوم ليس سوى نتيجة واقعية لانعدام الاستقرار السياسي المستمرّ منذ ثلاث سنوات ونصف، والذي تمثّل بإجراء الانتخابات تلو الانتخابات، وتشكيل حكومة تلو الحكومة، من دون الوصول إلى برّ.
انطلاقاً من أزمة الحكم، وانطلاقاً من الانقسام الحادّ الموجود في داخل المجتمع الإسرائيلي، بين إسرائيليين معتدلين وآخرين متطرّفين إلى أقصى الحدود، فإنّ سؤالاً بدأ يطرح نفسه إن باتت إسرائيل بحاجة إلى عقد اجتماعيّ جديد يُعيد تنظيم الحياة السياسية؛ وهل يكمن "الحل" في تبديل العقد الاجتماعي، أو تطوير الحالي، أم في تبديل عقليّة الحكم الإسرائيلية؟ وهل سيكون بمقدور العقد الجديد حلحلة الأزمات المحوريّة؟
العقد الاجتماعي "كُسر"... ما السبب؟
في هذا السياق، تتطرّق صحيفة "جويش جورنال" إلى هذه القضية، وتعتبر في مقال رأي للكاتب تومر برسيكو أن العقد الاجتماعي "كُسر"، لأن خطوط الصدع باتت عميقة الجذور في المجتمع اليهودي الإسرائيلي، علماً بأن نخب هذا المجتمع المنتشرة في مختلف المؤسسات الإسرائيلية، وضمنها المؤسسات الأمنية، تُشارك في الحركة الاحتجاجية الحاصلة في البلاد، لأنّهم يعتقدون أن التوازن الذي أدّى إلى "نمو إسرائيل" قد كُسر.
وبحسب الكاتب، فإن الحفاظ على هذا التوازن هو "الإنجاز المميّز" الذي حققه نتنياهو في العقود الماضية. وبالرغم من أن رئيس الوزراء الإسرائيلي لم يكن يوماً "زعيماً شعبياً" كمناحيم بيغن أو آرييل شارون، فإن "الصفقة" التي قدّمها إلى الإسرائيليين كانت "مرضية"، وهي الازدهار الاقتصاديّ جنباً إلى جنب مع الاحتلال، وزيادة مستوى المعيشة جنباً إلى جنب مع تمويل المتطرفين. لكن الواقع تبدّل، ونتنياهو يتّجه نحو سياسات مضرّة بالاقتصاد.
وبرأي كاتب المقال، فإن السلطة الإسرائيلية الحالية تقوّض أهمّ ميزات إسرائيل، وهي النزعة الليبرالية؛ وتهديد الحكومة لهذه القيم استدعى ردة فعل قاسية من قبل الإسرائيليين الذين انتفضوا ضد نتنياهو، وطالبوا بوقف التشريعات التي من شأنها أن تسمح لأي حكومة مستقبلية بـ"تفكيك المجال العام الليبرالي والاقتصاد وفرض الدين والتمييز"، كما طالبوا أيضاً بإعادة صياغة العقد الأساسي الذي يجمع بين الطبقة الوسطى والنخب العاملة والجماعات غير المنتجة في البلاد.
ويشدّد الكاتب في الوقت نفسه على أن الطريق إلى الأمام لمعالجة الأزمات يكمن في "قيادة قادرة على صياغة روح مشتركة جديدة، جمهورية جديدة، حيث يتمّ الاعتراف بمساهمة جميع الأحزاب في حماية الحياة والقيم الإسرائيلية"، ويتمّ الوصول إلى توازن جديد بين المجموعات.
أزمتان دستوريتان في إسرائيل
صحيفة "جيروزالم بوست" العبرية تُشير أيضاً إلى تطوّر الاحتجاجات في إسرائيل من المطالبة بالرجوع عن التعديلات القضائية إلى المطالبة بعقد اجتماعي جديد، وتذكّر بأن إعلان "استقلال إسرائيل" عام 1948 تحدّث عن جمعية دستورية من شأنها إقرار عقد اجتماعي جديد. لكن هذا ما لم يحصل، وهذه اللجنة أعلنت نفسها الكنيست، وقالت إن الأخير سيسنّ "القوانين الأساسية" التي تشكّل معاً دستوراً للبلاد، وذلك في عام 1950.
ويعود كاتب المقال تمار براندس إلى جوهر الأزمة، وهو التمثيل السياسي في السلطات، بسبب قصور نظام الانتخابات، الذي يعود تاريخه إلى بدايات إسرائيل، والذي بات سبباً للانقسام الحاد. كذلك تطرّق إلى شكل الحكومة غير القادرة على توفير الاحتياجات اليومية للإسرائيليين، بسبب تركيز السلطة في الحكومة المركزية، في حين من الممكن منح السلطة إلى السلطات المحلية بهدف الاستجابة للاحتياجات المحلية والمساعدة في تخفيف التوترات.
وبرأي الكاتب، فإن إسرائيل تفتقر إلى اتفاقيات مستقرّة وشاملة حول أهم المسائل المحورية، من العلاقة بين الدولة والدين، إلى مكانة الحقوق، وسلطة القضاء وواجبات مختلف قطاعات المجتمع الإسرائيلي في ما بينها وتجاه الدولة، معتبراً أن أزمة التضامن ومستويات انعدام الثقة داخل المجتمع الإسرائيلي كانت "شديدة للغاية".
كيف سيكون شكل العقد المزعوم؟
يرى الكاتب أن الوقت حان لإقرار عقد اجتماعي جديد لإسرائيل، تكون الهوية الإسرائيلية الجديدة محوره، لأن هذه الهوية لم تكن موجودة في عام 1948، تاريخ تأسيس إسرائيل، وتكوّنت على إثر التطورات التي حصلت في الـ75 سنة، وتشمل هذه الهوية جميع مواطني إسرائيل من اليهود والعرب، ومن المتحدرين من أصل شرقي وغربي، ومن الرجال والنساء. ويجب أن يعكس هذا العقد الاجتماعي الجديد، ومؤسسات الدولة، فكرة أن "إسرائيل ملك الجميع".
أما عن شكل الدستور المطلوب، فيُشدّد الكاتب على وجوب منح جميع الأفراد الخاضعين لسلطة إسرائيل حقوقاً متساوية (وذلك في ظل التمييز القومي والطائفي)، بالإضافة إلى ضرورة الفصل بين الدولة والدين، وترقية الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية من الدرجة الثانية إلى الأولى، لأن هذه الحقوق تعكس مدى التزام أعضاء المجتمع السياسي بتعزيز العدالة والمساواة في المجتمع الإسرائيلي.
في المحصّلة، فإن الأزمة السياسية التي تواجهها إسرائيل جوهرية، وتشكّل خطراً على استمرارها في ظل التحدّيات الداخلية والخارجية، وسوء العلاقات الخارجية في بعض الحالات، وقد يكون إقرار عقد اجتماعي جديد بمثابة "حل" للإسرائيليين. لكن العين يجب أن تبقى على الحكم وكيفية تنفيذ القوانين، لأن الدساتير مجرّد أداة، وروحية التنفيذ هي الأساس.