أصدرت المحكمة الأميركية العليا يوم الجمعة قراراً قضى بمنح الولايات سلطة وضع قوانين الإجهاض الخاصة بها من دون القلق من أن تتعارض مع تشريعات الدولة. بذلك، تكون المحكمة قد عكست قرار السماح بالإجهاض خلال الثلثين الأولين من الحمل في تشريع صدر سنة 1973 ويعرف بقرار "رو ضد ويد". أثار قرار المحكمة أمس انقساماً حاداً بين الأميركيين، حيث يعارض المحافظون عادة "حق" الإجهاض إلا في حالات نادرة بينما يؤيّده الليبيراليون بشكل عام.
أتى الحكم بعدما نظرت المحكمة في قضية "دوبس ضد منظمة جاكسون لصحة النساء" والتي تمحورت حول قانون في ميسيسيبي منع الإجهاض بعد 15 أسبوعاً على الحمل. طلبت الولاية الجمهورية من المحكمة إلغاء حكم محكمة أدنى قضى بوقف حظر الإجهاض خلال الأسابيع الخمسة عشر.
حدود الحرية
في مجلة "واشنطن إكزامينر"، أشادت كايلي ماغي وايت بقرار القضاة مسلطة الضوء على البراهين التي قدموها. واستند القضاة إلى التاريخ والتقليد الأميركيين اللذين لم يشرّعا حقّ إنهاء الحمل في أي مرحلة. حتى أن ثلاثة أرباع الولايات جرّمت الإجهاض في جميع مراحل الحمل. وكتب القاضي صمويل أليتو أنّه بدلاً من التعامل مع هذه الوقائع، قرر مناصرو رو أنّ حق الإجهاض يقع في خانة "الحق بالخصوصية" وهو حق "فضفاض" و"مبهم"، أو في خانة حرية اتخاذ "قرارات حميمة وشخصية". لكنّ الحرية "تحدد الحدود بين المصالح المتنافسة". وأكد أليتو أنّ الدستور لا يمنع المواطنين في كل ولاية من تنظيم أو منع الإجهاض لكنّ رو سمح بانتحال هذه السلطة. "نحن الآن نبطل تلك القرارات ونعيد تلك السلطة إلى الشعب وممثليه المنتخبين".
وول ستريت جورنال: أين عثروا على هذا الحق؟
كان لهيئة التحرير في صحيفة "وول ستريت جورنال" الرأي نفسه مشيرة إلى أنّ قرار المحكمة أمس استند إلى سوابق تشريعية أكثر مما فعل قرار رو. فقبل نحو خمسين عاماً، زعم القضاة أنهم وجدوا حقاً دستورياً بالإجهاض لم يكن مذكوراً قط في الدستور ولم يكن له تاريخ في القانون الأميركي العام. "صحّحت المحكمة أخيراً خطأها يوم الجمعة" بعدما أجّج القرار السابق السياسات الأميركية طوال 49 عاماً. حين يكون حكم قضائي مثيراً للجدل وغير قابل للتطبيق بعد خمسة عقود، فهذا "دليل دامغ على أنه قرار اتخذ بشكل خاطئ".
وأيدت الصحيفة سحب القضية من يد القضاء وإعادتها إلى السياسة والإقناع وهذا سيكون أمراً "صحياً" للسلطة القضائية. لكنها حذرت من الدفع باتجاه فرض حظر على الإجهاض في كل الولايات لأن ذلك سيتناقض مع ما طالب به الجمهوريون في السابق من إبطال لـ"رو" بغية إعادة القضية إلى كل ولاية على حدة. كما أن القيم المقبولة في ميسيسيبي وتكساس قد لا تكون كذلك في نيويورك أو كاليفورنيا.
المحافظون يحترمون قانون الولاية... حين يعجبهم
عميد كلية الحقوق في جامعة كاليفورنيا في بيركلي إروين تشيميرينسكي كتب في صحيفة "لوس أنجلوس توداي" أنّه تم إبطال "رو ضد ويد" فقط بسبب هوية القضاة لا بسبب المنطق أو التفسير القانوني الذي استند إليه. لقد حصل ذلك لأن ترامب فاز بالرئاسة وحسب. وإذا كان أليتو يركز على فكرة ترك قضية الإجهاض للمسار السياسي في كل ولاية، فتشيميرينسكي يظهر أن هذا الأمر لم يحدث حين أعلن المحافظون في المحكمة العليا عدم دستورية قانون نيويورك الذي يحد من حمل الأسلحة في الخارج بالرغم من أنه كان ساري المفعول منذ سنة 1911 أو حين أسقطوا قانون ولاية ماين الذي حد من تقديم المساعدة المالية للمدارس الدينية. وأضاف الكاتب أنّ محافظي المحكمة يحترمون قانون الولايات فقط حين يعجبهم.
سيتحول الجيران إلى وشاة
الناشطة الحقوقية هيذر بوث رأت في مجلة "أميركان بروسبكت" أنّ المحكمة العليا انتزعت من الناس قدرتهم في السيطرة على أجسادهم وحياتهم وسلّمتها إلى السياسيين. ورأت أنّ القرار مناهض للإرادة الشعبية والأخلاق وتوسيع الحريات، حرية الشخص في إنجاب أو عدم إنجاب طفل في الوقت الذي يريده ومع الشريك الذي يريده. وكتبت أنّ 80% من الأميركيين يعتقدون أنه لا يحق للسياسي التدخل في العلاقة بين المرأة وطبيبها وأن 75% من الأشخاص لا يظنون أنه يجب إبطال رو. و20% من النساء القادرات على الإنجاب سيخضعن للإجهاض في مرحلة من المراحل داخل الولايات المتحدة.
ولفتت إلى أن قرار المحكمة سيحول أميركا إلى دولة تسلطية حيث سيبلغ الجار عن جيرانه في حال اشتبه بسعيهم للإجهاض من أجل الحصول على 10 آلاف إلى 100 ألف دولار كما يحصل في بعض الولايات. وقد يؤدي ذلك مجدداً إلى تأسيس أجنحة خاصة في المستشفيات للواتي تسببن لأنفسهن بالأذية عندما سعين للإجهاض. ولن تسمح ولايات عدة باستثناءات لتجريم الإجهاض في حالات الاغتصاب أو سفاح القربى، على الرغم من أنه ليس لأحد تحديد ما تقرره الحوامل وفقاً لبوث. ودعت في الختام إلى التصويت بكثافة في الانتخابات النصفية للحصول على قوانين لحمل السلاح وتوسيع التصويت وتقنين رو ومكافحة التغير المناخي.
واشنطن بوست: قرار متهوّر
تخوّفت هيئة التحرير في صحيفة "واشنطن بوست" أيضاً من انتشار الإجهاض غير الآمن بفعل قرار المحكمة الذي وصفته بـ"المتهور" و"الخطير" و"الراديكالي" مطالبة الأميركيين بالتحرك للدفاع عن حقوقهم. بحسب رأيها، استند قرار رو إلى المبدأ البسيط الذي يقضي بأهمية إيلاء الحكومة اهتماماً كبيراً بامتياز الفرد في اختيار أكثر القرارات حميمية. سيصبح الإجهاض محرماً بطريقة آلية في 13 ولاية كما أن ولايات أخرى قد تمنع ممارسات إنجابية أخرى مثل التخصيب داخل أنابيب الاختبار. وهذا يناقض فكرة أن كل ما فعلته المحكمة هو إعادة قضية الإجهاض إلى سلطة الولايات. و"هجوم" المحكمة على "حقوق الإجهاض" يثير أسئلة عن ضمانات مستقبلية أخرى مثل زواج المثليين والوصول إلى حبوب منع الحمل والزواج بين أشخاص ينتمون إلى أعراق مختلفة.
تشير الصحيفة نفسها إلى قول القضاة إنّ حكمهم لا يؤثر على هذه المسائل. لكنهم يفشلون في توضيح كيف أنّ تبريرهم لحكمهم الأخير لن يُستخدم لتبرير أحكام مستقبلية بحق هذه القضايا. وتشدد "واشنطن بوست" على أهمية مفهوم أن القضاة هم أكثر من مجرد سياسيين يرتدون ثوب المحكمة. عليهم تفسير القانون بالاستناد إلى التقاليد والتاريخ والمنطق عوضاً عن فرض تفضيلاتهم السياسية الخاصة. وذكرت أن أميركا تدخل حقبة جديدة من غياب الثقة والتقلب في النظام القضائي.
نيويورك بوست: فليمتنع اليسار عن "تفجير" البلد
أشارت "نيويورك بوست" إلى أنّه لم يكن للمحكمة العليا خيار آخر سوى إلغاء رو لأنّ قضية الإجهاض تتعلق بصلاحيات الولاية. "بالنسبة إلى من لا يعجهم ذلك، يكمن الجواب في صندوق الاقتراع". وأضافت أن لنيويورك مثلاً قانوناً يحمي الإجهاض ولا يتأثر بقرار المحكمة. "إن كنتم تريدون تفويضاً فيديرالياً، فأقنعوا ما يكفي من المشرعين – وهو أمر لم يقم به أي طرف في 50 عاماً". لكن الخطير هو أنّ الكثير من اليسار يعتقدون أنّ الجواب "يكمن في العنف".
لقد سرّب أحدهم قرار المحكمة العليا بهدف واحد هو ترهيب القضاة لتغيير رأيهم. والآن إنّ مجموعة "جاينز ريفنج" (الثأر لجاين) "الراديكالية الإرهابية" بحسب الصحيفة تعهدت الإعداد لـ"صيف غضب". وشككت الصحيفة برغبة بايدن في إبقاء التظاهرات المعارضة سلمية. منذ أقل من شهر، فشل رجل في اغتيال القاضي في المحكمة العليا بريت كافانو ولم يصدر بايدن سوى رد ضعيف، لكن رده أمكن أن يكون أقوى لو طالت محاولة الاغتيال قاضياً ليبيرالياً لا محافظاً وفقاً لتحليل الصحيفة. وختمت أنّ الجدل حول الإجهاض لن ينتهي قريباً لكنّ ذلك لا يبرّر "تفجير" البلد.
"نيويورك تايمس": كل إجهاض عرضة لشبهة الجريمة
وصفت صحيفة "نيويورك تايمس" قرار المحكمة بأنه "إهانة" للقضاء والنساء. ورأت أنه للمرة الأولى في التاريخ، ألغت المحكمة حقاً دستورياً راسخاً يتعلق بكرامة واستقلالية اتخاذ قرار بما يحدث لجسم الإنسان. بحلول 24 حزيران، بات لـ 64 مليون امرأة حقوق أقل في تقرير ما يحدث لأجسامهنّ بالمقارنة مع اليوم السابق. وتخوّفت من وفاة العديد من النساء بسبب اضطرارهن لإجراء إجهاض غير آمن لأنهن لن يستطعن الانتقال إلى ولايات أخرى لإجراء العملية.
حتى أولئك القادرات على الانتقال إلى ولاية أخرى تسمح بالإجهاض سيتعرضن للمحاكمة عند العودة إلى ولايتهن الأساسية. سيدخل بعضهن إلى السجن وكذلك أطباؤهن. وسيتم التحقيق في حالات إجهاض طبيعي على أنها جرائم قتل وهذا ما حصل بالفعل في ولايات عدة وقد يصبح الأمر أكثر شيوعاً. من دون السيطرة الكاملة على أجسامهنّ، ستخسر النساء قدرتهن على العمل كأعضاء متساوين في المجتمع الأميركي.
ليس كلّ المحافظين راضين
لم يرضِ قرار المحكمة جميع المحافظين. المحرر المشارك لمجلة "أميركان كونسيرفاتيف" ديكلان ليري قسّم الجدل حول الإجهاض بين معسكري "موت" و"حياة". ويجد أن "قتل الأطفال سيئ" وكان يجب أن يكون محظوراً منذ البداية. وأضاف أنّ قرار المحكمة ليس انتصاراً لأنه لم يحظر "التضحية بالأطفال" بل "الطابع الإلزامي" لـ"التضحية بهم".
مات رو وهذا يعني أنّ المرحلة الأولى من "الحرب الثقافية والروحية" صبت لمصلحة مؤيدي الحياة. لكنّ الحرب ستسمر لضمان حصول الجنين على الاعتراف به كشخص بشري يستحق حماية القانون، وفقاً لرأيه.