ساعات مشحونة عاشتها روسيا، في خضمّ "العملية العسكرية الخاصة" - التسمية الروسية الرسمية لحرب أوكرانيا - التي دخلت السبت شهرها الـ16. بدأت مجموعة فاغنر العسكرية الخاصة زحفاً نحو العاصمة موسكو رأى الغرب أنّه "أهم تحدٍّ للدولة الروسية في الزمن الحديث"، قبل أن تُنهي تمرّدها على الرغم من أنها قطعت معظم الطريق، مما أدى إلى خفض تصعيد تحدٍّ كبير لقبضة الرئيس فلاديمير بوتين على السلطة.
يغادر رئيس فاغنر يفغيني بريغوجين روسيا إلى بيلاروس فيما أُسقطت التهم الجنائية عنه، بعد أن أنهى السبت تقدّم قواته نحو موسكو بموجب اتفاق أبرمه مع الكرملين لطيّ صفحة أخطر أزمة أمنية في روسيا منذ عقود. وقد صدر قرار إنهاء التمرّد بعد أن صار مقاتلو فاغنر في وقت سابق السبت على مسافة تقل عن 400 كيلومتر من العاصمة. وبدأ عناصر فاغنر الانسحاب من مواقع سيطروا عليها اليوم.
(أ ف ب)
في موسكو، قال المتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف إنّ الاتفاق مع بريغوجين هدفه تجنّب إراقة الدماء، مؤكّداً أنّ "الهدف الأسمى هو تجنّب حمّام دم وصدام داخلي واشتباكات لا يمكن التنبّؤ بنتائجها".
وسط التطورات، وفيما يسير الهجوم الأوكراني المضادّ "وفق الخطط"، على ما أكّد أكد القائد العام للجيش الأوكراني فاليري زالوجني لرئيس الأركان الأميركي، اعتبر الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي أنّ قواته تحمي أوروبا من القوات الروسية، داعياً إلى تزويد جيشه "الأسلحة اللازمة جميعها"، بما في ذلك مقاتلات إف-16.
بعد انسحاب فاغنر، تنسحب "كتائب أحمد" الشيشانية، وهي مجموعة من القوات الخاصة، من منطقة روستوف الروسية بعد إرسالها إلى المنطقة لمقاومة التمرّد، وفق ما ذكرت وكالة "تاس" الروسية للأنباء نقلاً عن أحد قادة الكتائب.
من جهة أخرى، نقلت وكالات أنباء روسية عن مسؤولين محلّيين قولهم إنّ السلطات رفعت القيود التي كانت مفروضة على حركة وسائل النقل في منطقة روستوف الروسية اليوم، بما في ذلك القيود المفروضة على الطرق السريعة.
ونقلت التقارير عن نائب وزير السياسة الإقليمية والإعلام في منطقة روستوف سيرغي تيورين قوله إنّ "محطات الحافلات والسكك الحديدية تعمل بشكل طبيعي. التذاكر مطروحة للبيع، و(الرحلات إلى) جميع الوجهات في موعدها".
"أهم تحدٍّ لروسيا"
في تقييم استخباري، رأت وزارة الدفاع البريطانية أنّ التمرّد يُعدّ "أهم تحدٍّ للدولة الروسية في الزمن الحديث"، مضيفة: "خلال الساعات المقبلة، سيكون ولاء القوات الأمنية الروسية، خصوصاً الحرس الوطني الروسي، محوريّاً في مسار الأزمة".
من جانبه، استبعد "معهد دراسة الحرب" في واشنطن نجاح التمرّد المسلّح، لكنّه رأى أنّ "هجوماً مسلّحاً من فاغنر على القيادة العسكرية الروسية في مدينة روستوف-نا-دونو ستكون له تداعيات مهمة على الجهد الحربي الروسي في أوكرانيا".
بدا أنّ تمرّد فاغنر الخاطف يتطوّر من دون ردّ فعل يُذكر من القوات المسلحة النظاميّة الروسيّة، مما أثار تساؤلات حول سيطرة بوتين على السلطة في الدولة المسلحة نوويّاً، حتى بعد التوقّف المفاجئ لتقدم فاغنر.
في وقت سابق، قال بريغوجين إنّ "مسيرته" إلى موسكو تهدف إلى طرد القادة الروس الفاسدين وغير الأكفاء الذين يلومهم على إفشال الحرب في أوكرانيا.
من جانبه، قال بوتين في خطاب بثه التلفزيون إنّ التمرّد يُعرّض وجود روسيا ذاته للخطر، مضيفاً: "نحن نناضل من أجل حياة وأمن شعبنا، من أجل سيادتنا واستقلالنا، من أجل حقّنا في البقاء. روسيا دولة لها تاريخ يمتدّ إلى ألف عام". وتعهّد بمعاقبة من يقفون وراء "التمرّد المسلح".
غير أنّه بعد مغادرة قوات فاغنر روسيا، ستسقط السلطات الدعوى القضائية المرفوعة على بريغوجين الذي سيتوجه إلى بيلاروس، بحسب ما أعلن الكرملين. ولن يُحاكَم أيّ من مقاتلي المجموعة التي أدّت دوراً قتاليّاً رئيسيّاً إلى جانب الجيش الروسي في أوكرانيا.
واشنطن "علمت باكراً"
في وقت متأخر السبت، ذكرت صحيفة
"واشنطن بوست" أنّ أجهزة الاستخبارات الأميركية رصدت مؤشّرات قبل أيام على أنّ رئيس مجموعة فاغنر يفغيني بريغوجين كان يحضّر للتحرّك ضدّ مؤسسة الدفاع الروسية، مشيرة إلى أنّ رصد المؤشرات بدأ في منتصف حزيران.
قدّم مسؤولون في الاستخبارات الأميركية إحاطات في البيت الأبيض والبنتاغون وكابيتول هيل في شأن احتمال وقوع اضطرابات في روسيا قبل يوم على بدئها. ووفق مسؤول لم يذكر اسمه، لم تكن الاستخبارات تعرف بالضبط متى سيحدث التمرّد، لكنّها كانت في حالة تأهب قصوى خلال الأسبوعين الماضيين.
وذكر المسؤولون أنّ عدم الاستقرار المحتمل في روسيا، والذي يمكن أن ينجم عن الصراع الأهلي، كان أكثر ما يثير قلق المسؤولين الأميركيّين. وأضاف أحدهم أنّ الصراع بين القيادة أصبح أكثر وضوحاً بعدما أمر وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو في 10 حزيران بضرورة توقيع أعضاء فاغنر عقوداً مع الحكومة، وهي خطوة تشير إلى استيلاء الدولة الروسية على الأعمال العسكرية للمجموعة.
بدورها، لفتت "نيويورك تايمز" إلى أنّه بحلول منتصف الأسبوع، أصبحت المعلومات ملموسة أكثر ومقلقة، ما دفع مسؤولي الاستخبارات لتقديم سلسلة إحاطات. وقد أثارت المعلومات بأنّ بريغوجين بنوي التحرّك عسكرياً قلق مسؤولين في أجهزة الاستخبارات الأميركية حيال إمكانية اندلاع فوضى في بلد يملك ترسانة نووية قوية، وفق الصحيفة.
خدعة محتملة و"مفاجأة"
نقلت شبكة "سي إن إن" عن مسؤول استخبارات غربي لم تُسمّه، اعتقاده بأنّ مزاعم بريغوجين في شأن نقص الذخيرة للعمليات في أوكرانيا كانت خداعاً متعمّداً للمساعدة في إرساء الأساس للتحدّي العسكري للقادة الروس.
بدوره، ذكر مصدر مطّلع على المعلومات الاستخباراتية أنّ الأمر "حدث بسرعة كبيرة"، وكان من الصعب معرفة مدى جدّية بريغوجين في تهديد الجيش الروسي وإلى أين سيأخذ جنوده. وأشارت "سي إن إن"
في وقت سابق إلى أنّ "المسؤولين الأميركيّين فوجئوا بالسرعة التي تطور بها الوضع ليلة الجمعة وتصاعدت إلى يوم السبت، ممّا تسبّب في قيام كبار المسؤولين بإلغاء الرحلات الدولية المخطط لها وعقد اجتماعات طارئة في جميع أنحاء الحكومة".
فعلى الرغم من أنّ التوترات تصاعدت مؤخّراً بين بريغوجين وكبار القادة في المؤسسة العسكرية الروسية، إلّا أنّ مسؤولي المخابرات الأميركية والأوروبية لم يتوقّعوا أن يتحرّك لاقتحام مدينة روستوف الروسية بقواته، وفق مصادر مطّلعة على المعلومات الاستخباراتية.
"إذلال"
رأت أوكرانيا في أحداث السبت "فرصة" يجب استغلالها ميدانيّاً. وعلى رغم الاتفاق، اعتبرت كييف أنّ بريغوجين أذلّ بوتين. وقال مساعد الرئيس الأوكراني ميخايلو بودولاك إنّ "بريغوجين أذلّ بوتين/الدولة وأظهر أنه لم يعد هناك احتكار للعنف".
رأى محلّلون أنّ التمرّد المسلح ستكون له تبعات على بريغوجين ومجموعته التي تنشط أيضاً في مناطق نزاع حول العالم. فقد قال الباحث في مركز الدراسات البحرية سامويل بينديت إنّ بريغوجين "يجب أن يرحل، وإلّا فالرسالة ستكون أنّ قوة عسكرية يمكنها تحدّي الدولة بشكل علني، وعلى الآخرين أن يفهموا أن الدولة الروسية لديها حصرية العنف (امتلاك السلاح) في داخل البلاد".
بدوره، اعتبر الباحث في معهد أبحاث السياسة الخارجية في الولايات المتحدة روب لي أنّ "بوتين وأجهزة الأمن سيحاولون على الأرجح إضعاف فاغنر أو تنحية بريغوجين جانباً"، مشيراً إلى أنّ "الآثار الأكثر أهمّية ستُرصد في الشرق الأوسط وأفريقيا حيث تتواجد فاغنر".
(أ ف ب)
ولم يتّضح صباح اليوم مكان تواجد بريغوجين بعدما غادر ليلاً على متن سيارة رباعية الدفع مقرّاً للقيادة العسكرية في مدينة روستوف-نا-دونو كانت قواته قد سيطرته عليه.
هجمات أوكرانية قرب باخموت
كان التمرّد ينذر بترك القوات الروسية الغازية في أوكرانيا في حالة من الفوضى، بينما تشنّ كييف أقوى هجوم مضادّ لها منذ بدء الحرب في 24 شباط 2022.
أبدى بعض الأوكرانيّين سعادتهم لاحتمال حدوث انقسام في صفوف الروس، وقال الجيش الأوكراني إنّ قواته أحرزت تقدّماً بالقرب من باخموت على الجبهة الشرقية وفي الجنوب.
بدورها، كتبت نائبة وزير الدفاع هانا ماليار على تطبيق تلغرام إنّ القوات الأوكرانية شنّت هجوماً بالقرب من مجموعة من القرى المحيطة بباخموت، وهي المدينة التي استولت عليها قوات فاغنر في أيار بعد قتال استمرّ شهوراً.
كذلك، قال قائد الجبهة الجنوبية أولكسندر تارنافسكي إنّ القوات الأوكرانية حرّرت منطقة بالقرب من كراسنوهوريفكا في دونيتسك. وأضاف أنّ المنطقة كانت تحت السيطرة الروسية منذ أن استولت عليها القوات الانفصالية المدعومة من موسكو في 2014.
وقال بوتين للتلفزيون الرسمي في بلاده اليوم الأحد إنه على تواصل دائم مع مسؤولي وزارة الدفاع، مضيفاً أنه بلاده لا تزال واثقة في نجاح خططها المتعلقة "بالعملية العسكرية الخاصة" في أوكرانيا.
وأذاع التلفزيون الرسمي هذه التعليقات التي أدلى بها بوتين في مقابلة مع المراسل لدى الكرملين بافل زاروبين.