النهار

بين "الصعب" و"الأصعب"... ذخائر عنقوديّة إلى أوكرانيا
جورج عيسى
المصدر: "النهار"
رسالة أميركيّة قد لا تكون إيجابيّة جدّاً لكييف
بين "الصعب" و"الأصعب"... ذخائر عنقوديّة إلى أوكرانيا
متطوع يُدعى "بيتبول" من وحدة القوات الخاصة "إسبانولا" (المشاغبون)، وهي كتيبة من مثيري الشغب في كرة القدم الروسية، يقف في ملعب تدريب خارج ماريوبول (22 تموز 2023 - أ ف ب).
A+   A-

"قرارٌ صعب". التوصيف هو للرئيس الأميركيّ جو بايدن الذي تحدّث عن الموافقة على نقل ذخائر عنقوديّة أميركيّة إلى أوكرانيا. ربّما أقدم بايدن على هذه الخطوة تفادياً لـ"قرار أصعب" قد يتحتّم اتّخاذه بعد أيّام.

قال مستشار الأمن القوميّ في البيت الأبيض جيك سوليفان إنّ بلاده قرّرت الاستجابة للمطالب الأوكرانيّة بالحصول على ذخائر عنقوديّة بعد فترة طويلة من الدراسة بفعل إدراك المخاطر الناجمة عنها بالنسبة إلى المدنيّين. لكنّه أوضح أنّ ثمّة خطراً مقابلاً يفرض نفسه على المدنيّين أيضاً وهو إمكانيّة احتلال روسيا للمزيد من الأراضي لأنّ أوكرانيا لا تملك ما يكفي من قذائف المدفعيّة: "هذا ما لا نستطيع تحمّله".

أثار القرار الأميركيّ جدلاً كبيراً حتى بين مؤيّدي كييف. المحقّق السابق في "هيومن رايتس ووتش" مارك غارلاسكو أعلن دعمه الكامل لأوكرانيا لكنّه قال إنّه يجب مساعدتها على الدفاع عن نفسها عبر الأسلحة المناسبة. "تفوز أوكرانيا بالحرب الآن مستخدمة ذخائر دقيقة التوجيه مثل ‘هيمارس‘ الأميركيّة و‘ستورم شادوز‘ البريطانيّة"، يقول غارلاسكو لشبكة "پي بي أس". حتى أمين عام حلف الناتو ينس ستولتنبرغ اعترف بوجود خلافات في وجهات النظر بين الحلفاء حيال هذا الموضوع.

 

لماذا الجدل؟

عادة ما تنفلش هذه الذخائر التي يمكن إطلاقها من منصّات عدّة، بدءاً بالمسيّرات وصولاً إلى منظومة "هيمارس"، على مستوى متوسّط (قابل للتحكّم) فوق سطح الأرض. يُطلق هذا الانفلاش عدداً كبيراً من القنابل الصغيرة التي تسقط فوق مساحة واسعة نسبيّاً من الأراضي، بالمقارنة مع المساحة التي يغطّيها القسم الأكبر من القذائف التقليديّة الأخرى. يبدو أنّ ما ستحصل عليه أوكرانيا هو الذخائر العنقوديّة التي تُطلق من قذائف 155 ملليمتراً.

 
 

مشكلة هذا السلاح، واسمه الرسميّ "الذخائر التقليديّة المحسّنة للاستخدام المزدوج"، أنّه يخلّف قنابل غير منفجرة لحظة اصطدامها بالأرض معرّضاً المدنيّين للخطر. لم تستخدم الولايات المتحدة هذا السلاح منذ نحو 20 عاماً. وذكرت تقارير عدّة، من بينها لـ"هيومن رايتس ووتش"، أنّ روسيا استخدمت هذه القنابل خلال غزوها لأوكرانيا.

تقول الولايات المتحدة إنّ نسبة فشل قنابلها في الانفجار لحظة الاصطدام بالأرض أقلّ بكثير من نسبة فشل القنابل الروسيّة (2 مقابل 30 في المئة تقريباً). لكنّ غارلاسكو من "هيومن رايتس ووتش" ذكر أنّ أرقام "مكتب المحاسبة الحكوميّة" تشير إلى أنّ النسبة هي 23 في المئة وهذا يعني أنّ ثمّة ما معدّله 20 قنبلة غير منفجرة من كلّ قذيفة تطلقها المدفعيّة. وحذّر من أنّ هذه القنابل قد تفرض خطراً حتى على الجنود الأوكرانيّين.

في الإطار نفسه، يتحدّث مراقبون عن أنّ قنابل عنقوديّة لا تزال تنفجر اليوم في فيتنام ولاوس علماً أنّها أطلقت منذ ستّينات الفرن الماضي. على الرغم من جميع هذه السلبيّات، فتحت واشنطن نافذة كبيرة على الأسباب التي تدعم قرارها.

 

"فوائد" عسكريّة... هائلة

جاء الهجوم الأوكرانيّ المضادّ أبطأ ممّا تصوّره الغرب وأوكرانيا نفسها. بنى الروس التحصينات طوال الأشهر الماضية، من الخنادق إلى حقول الألغام و"أسنان التنّين". استفادوا إلى حدّ كبير من عرقلة هذه العوائق لتقدّم الأوكرانيّين من أجل أن يستهدفوا الدبّابات وناقلات الجند الأوكرانيّة بالمدفعيّة. ستساعد هذه القنابل أوكرانيا في ضرب الخنادق الروسيّة بشكل أسرع كما يمكنها أن تفجّر حقل الألغام بسهولة أكبر. من جملة الأسباب التي يُحتمل أن تكون قد ساهمت في إبطاء الهجوم، استهلاك أوكرانيّ كبير غير متوقّع للقذائف المدفعيّة.

بما أنّ القنابل العنقوديّة موجودة بكثرة في المخازن الأميركيّة على الأقلّ، يمكن أن يعوّض وجودها البطء في تسليم وحتى تصنيع القذائف المدفعيّة. وتملك واشنطن نحو 10 آلاف قذيفة عنقوديّة في المخازن الأوروبّيّة وحدها، الأمر الذي يقلّص فترة عمليّة التسليم إلى أوكرانيا. كذلك، تتمتّع بعض هذه الذخائر بالقدرة على اختراق العربات المدرّعة. بالتالي، يقدّم استخدام تلك الأسلحة منفعة مزدوجة من الناحية العسكريّة لكييف وواشنطن: هو يخفّف الضغط عن المخزونات الأميركيّة من القذائف التقليديّة ويسرّع وتيرة الهجوم العسكريّ المضادّ الذي تشنّه أوكرانيا منذ نحو شهر.

 

 

(تفكيك قنابل عنقودية في ألمانيا سنة 2009 - أ ب)

 

بالمقابل، ليست الخلافات بين الحلفاء حول هذه القضيّة كبيرة إلى حدّ تشكيل أزمة. ولا تواجه الإدارة معارضة داخليّة شديدة من الداخل أقلّه لغاية اليوم. في آذار الماضي، أرسل كبار الجمهوريّين في الكونغرس رسالة إلى الإدارة يحثّونها من خلالها على إرسال هذه الذخائر إلى أوكرانيا قائلين إنّ الولايات المتحدة تملك أكثر من ثلاثة ملايين قذيفة متاحة للاستخدام. ووجّه مشرّعون من كلا الحزبين رسالة مماثلة الأسبوع الماضي.

 
 

لم توقّع موسكو وكييف وواشنطن على اتّفاقيّة حظر هذه الأسلحة (2008) التي انضمّت إليها أكثر من 120 دولة. خفّفت هذه العوامل مجتمعة من العبء المعنويّ عن واشنطن لتلبية المطلب الأوكرانيّ. وفرضت الولايات المتحدة شروطاً على أوكرانيا لاستخدام هذا السلاح: عدم إطلاق هذه الذخائر ضدّ مناطق يقطنها مدنيّون وتصوير هذه الذخائر عند كلّ استخدام لها والمشاركة في برنامج شامل لنزع الألغام بعد انتهاء الحرب بحسب تقرير شبكة "أي بي سي". بالنسبة إلى إدارة بايدن، كما يقول التقرير نفسه، إنّ "الأوقات اليائسة ربّما تطلّبت إجراءات يائسة".

 

رسالة محتملة

هل يمثّل تزويد أوكرانيا بهذه الأسلحة من ضمن حزمة دعم جديدة بقيمة 800 مليون دولار خطوة عسكريّة تصعيديّة ضدّ روسيا وحسب؟ يتوجّه الحلف الأطلسيّ إلى قمّته في العاصمة الليتوانيّة فيلنيوس بين 11 و12 تمّوز ومن أولويّاته مناقشة عضويّة أوكرانيا في الحلف. إلى الآن لا تزال هذه الآفاق بعيدة. قال ستولتنبرغ إنّ كييف لن تصبح عضواً أطلسيّاً طالما أنّ الحرب مستمرّة وإنّ قمّة فيلنيوس لن تصدر دعوة رسميّة.

بعبارة أخرى، قد تصاب كييف مجدّداً بخيبة أمل شبيهة بخيبة أمل قمّة بوخارست 2008 حين أصدر قادة الناتو وعداً فضفاضاً بقبول أوكرانيا بين صفوفه في مرحلة ما من المستقبل. لكن من المرجّح أن تكون خيبة الأمل أكبر اليوم إن لم يعمد الحلف أقلّه إلى إصدار جدول زمنيّ محدّد لاستقبال أوكرانيا، ولو بعد انتهاء الحرب، بعد كلّ ما قدّمته من تضحيات. صحيحٌ أنّ التضحيات خدمت مصلحتها بالدرجة الأولى، لكن أيضاً مصلحة الحلف على مستوى أوسع، لناحية حمايته من اضطرار خوض معركة مع الروس على أراضيه، أو من الاضطرار لتقديم تنازلات إليهم. إلى الآن، بحسب "رويترز"، يمكن أن يتّفق المجتمعون على صياغة كلمات أقوى من عبارات قمّة بوخارست، مثل "مكان أوكرانيا المناسب في الناتو". لن يلائم ذلك طموح أوكرانيا على الأرجح.

بعدما تأخّرت أميركا في تسليم كييف مقاتلات "أف-16" (قد لا تصل أوّل دفعة قبل نهاية أيلول) ومع استمرار تردّدها تجاه فكرة إرسال صواريخ "أتاكمس" الطويلة المدى إليها، يمكن أن تكون الموافقة على إرسال الذخائر العنقوديّة، تحديداً في هذا التوقيت، نوعاً من التعويض الأميركيّ المسبق عن عدم تحقيق قمّة فيلنيوس الكثير من آمال الأوكرانيّين. قد لا يطول الوقت كثيراً قبل معرفة صحّة هذه الفرضيّة من عدمها.

 

اقرأ في النهار Premium