"رجاءً، اِنصحني ماذا أقول لابني؟ إنّ بايدن وحلف شمال الأطلسي لم يوجّها دعوة لأوكرانيا (كي تنضمّ) إلى الناتو لأنّه خائف من روسيا، خائف من خسارة روسيا، خائف من انتصار أوكرانيا؟"
أجاب مستشار البيت الأبيض لشؤون الأمن القوميّ جيك سوليفان على سؤال الناشطة الأوكرانيّة داريا كالينيوك خلال منتدى احتضنته قمّة الناتو الأخيرة بنفي وجود خوف لدى الإدارة. وتمنّى عليها بطريقة غير مباشرة إظهار الامتنان للشعب الأميركيّ على الدعم الكبير الذي قدّمه لأوكرانيا. كان هذا الحوار نسخة مصغّرة عن أبرز أحداث القمّة: غضبٌ عبّر عنه زيلينسكي بسبب عدم منح بلاده جدولاً زمنياً لدخول الناتو ثمّ طلبُ بعض حلفاء أوكرانيا إظهار الامتنان. وهذا ما فعله زيلينسكي لاحقاً. عمليّاً، لكلا الفريقين شكاوى أو مظالم معقولة.
"لسنا أمازون"
تشعر الولايات المتحدة بأنّ أوكرانيا لا تقدّر أحياناً الجهد المبذول لحشد الدعم. دفعُ نحو 30 دولة أطلسيّة لاعتماد سياسة واحدة تجاه كييف سهلٌ نظريّاً لا عمليّاً. كان على أميركا، مثلاً، إعلان أنّها سترسل دبابات "أبرامز" إلى أوكرانيا كي تحفّز ألمانيا على إرسال دبابات "ليوبارد" إليها. وبذلت واشنطن مساعي ديبلوماسيّة كبيرة لإقناع سيول بتغيير سياستها من أجل تحويل قذائف 155 ملم إلى أوكرانيا ولو بطريقة غير مباشرة. وتحمّلت إدارة بايدن ضغطاً معنويّاً سلبيّاً من الحلفاء والخصوم والمنظّمات الحقوقيّة بسبب قرار إرسال ذخائر عنقوديّة إلى كييف.
ويتحتّم على الولايات المتحدة أيضاً مواصلة تحويل الأسلحة النوعيّة إلى أوكرانيا، ربّما أحياناً على حساب إمكانات الردع في تايوان. طلبات كييف بشأن الأسلحة كانت كثيفة إلى درجة أنّ وزير دفاع إحدى أقرب الدول إليها، بريطانيا، قال لزيلينسكي إنّ بلاده "ليست شركة أمازون". يضاف إلى كلّ ذلك أنّ على الإدارة أخذ الحسابات الداخليّة بالاعتبار. فحشد الدعم في الكونغرس والإعلام، بالتوازي مع مواجهة تيّار انعزاليّ قويّ في البلاد، هو وحده مهمّة مضنية.
ولا تكتفي أوكرانيا بالحصول على أسلحة نوعيّة وبكمّيّات كبيرة؛ هي تطالب بالانضمام إلى الناتو من دون اعتبار لمخاطر جرّ الحلف كلّه إلى حرب لا يريدها. وفي نهاية المطاف، قد لا تأبه أوكرانيا كثيراً لما إذا أصبحت عضويّتها، أو الدعوة الرسميّة للحصول على العضويّة، مثار جدل كبير في الولايات المتحدة على أبواب الانتخابات الرئاسيّة. كما أنّ القمّة تعهّدت بالمزيد من الدعم العسكريّ والضمانات الأمنيّة من بينها مع مجموعة السبع.
هذه جميعها أسباب مرجّحة لامتعاض الإدارة من حملات أوكرانيا الإعلاميّة ضدّ سياساتها. إنّه امتعاض وصل، بحسب صحيفة "واشنطن بوست"، إلى "غضب" لدى الوفد الأميركيّ وتفكير بالردّ قبل التراجع عن ذلك. لكن كما بالنسبة إلى الامتعاض الأميركيّ، تبدو انفعالات الرئيس الأوكرانيّ مبرّرة.
شكاوى قديمة
صحيح أنّ المساعدات العسكريّة الأميركيّة بالغة الحيويّة للمقاتلين الأوكرانيّين، لكنّ الصحيح أيضاً أنّها بطيئة جدّاً بالوصول إلى كييف. على سبيل المثال، أحبط الغرب من بطء الهجوم الأوكرانيّ المضادّ، بالرغم من أنّ الغرب نفسه لن يخوض أيّ حرباً واسعة النطاق من دون غطاء جوّيّ. ستصل بعض المقاتلات الأميركيّة إلى أوكرانيا في أواخر أيلول، وبذلك، هي لن تخدم كثيراً الهجوم المضادّ الحاليّ. لا تكمن المشكلة في أنّ الضوء الأميركيّ الأخضر لنقل الأسلحة المتطوّرة بطيء بل أيضاً في أنّ كمّيّة الأسلحة التي تصل بعد الموافقة أقلّ من التعهّدات. وبعد كلّ ما قدّمته أوكرانيا من تضحيات، لا تزال "غير مستعدّة" للحصول على دعوة رسميّة للانضمام إلى الناتو بحسب تعبير بايدن.
وبالكاد يمكن ملاحظة أيّ تطوّر في قمّة فيلنيوس عن قمّة بودابست (2008) لجهة استقبال أوكرانيا في النادي الأطلسيّ، باستثناء أنّ أوكرانيا لم تعد مضطرّة للمرور بمرحلة "خطة عمل العضويّة" لو وافق الأعضاء على توجيه الدعوة. وربّما تعتقد أوكرانيا أنّه يمكن إيجاد صيغ عدّة لتقريبها أو حتى لضمّها إلى الحلف، كالتحدّث عن استثناء لحصر تطبيق المادّة الخامسة بالأراضي الأوكرانيّة المحرّرة والبعيدة عن خطوط المعارك في الشرق والجنوب. ويلفت البعض نظر الإدارة إلى أنّه ينبغي عليها، في حال كانت تعتبر أنّ زيلينسكي يضغط كثيراً للحصول على العضويّة، أن تتذكّر حجم الضغط الذي مارسه حينها الرئيسان البولندي ليخ فاونسا وفاكلاف هافل على الرئيس بيل كلينتون عندما شعرا بأنّ إدارته لن تقبل بانضمام بلديهما إلى الحلف الأطلسيّ. هذا عدا عن مظالم أخرى أقدم عهداً، من بينها تقصير أو سوء تعامل إدارة أوباما مع ضمّ روسيا للقرم سنة 2014.
عينٌ على المستقبل
ثمّة تضارب في المعلومات عن التوتّر في قمّة كان يفترض أن تبرهن عن وحدة أكبر. ربّما يعود ذلك إلى ما حكي عن تقريب لوجهات النظر قبل ساعات على بدء القمّة، أو حتى رسم الإعلام المؤيّد لأوكرانيا صورة غير صحيحة عن الواقع. خروج التوتّرات إلى العلن من جهة، واستمرار تعليق دعوة أوكرانيا إلى الحلف حتى أجل غير مسمّى كان انتكاسة للقمّة أراحت إلى حدّ ما الرئيس الروسيّ فلاديمير بوتين. لكنّ الراحة كانت موقّتة. هي أكّدت صحّة رهانه على احتمال انقسام الغرب في نهاية المطاف، إنّما لم تحجب مشاكله الأخرى. ففي الداخل، تجرّؤ أكبر على تحدّي القيادة العسكريّة مع أنباء عن إقالات من الجيش الروسيّ بعد تمرّد "فاغنر"، وفي الخارج، صمود عسكريّ على الجبهة لكن أمام أقلّ من ثلث الألوية الأوكرانيّة التي تدرّبت على يد الناتو.
في الواقع، بالرغم من الكبوة الموقّتة، تظلّ قمّة فيلنيوس استثنائيّة. ففيها أزيلت آخر العوائق الكبيرة أمام انضمام السويد إلى الناتو الذي "لا ينفكّ يتوسّع" على الحدود الروسيّة، وفيها اتُّخذ قرار بتغيير هائل في عقيدة الحلف الردعيّة. قبل فيلنيوس، كانت استراتيجية الناتو "الردع عبر المعاقبة" أي الردّ على روسيا بعد اجتياحها المحتمل لدوله، لكن بعد القمّة، ستتحوّل إلى "ردع عبر المنع" مع حشد عشرات الآلاف من العناصر لمنع روسيا من أخذ "بوصة واحدة" من الأراضي الأطلسيّة.
بالرغم من الجدالات التي أثيرت ولا تزال عمّا أمكن تقديمه لمصلحة كييف، يمكن القول إنّ فيلنيوس مثّلت بالحدّ الأدنى توطئة للقمّة الأطلسيّة الأهمّ التي ستستضيفها الولايات المتحدة السنة المقبلة والتي ستصادف الذكرى الخامسة والسبعين لتأسيس الحلف. ربّما، في حال انتصارها على روسيا، تنفتح أبواب الحلف أمام أوكرانيا من داخل واشنطن نفسها... هذه المرّة بالمعنى السياسيّ والجغرافيّ أيضاً.