"المفاجأة الوحيدة هي سرعة التغيّر. التغيّر المناخيّ هنا. إنّه مرعب، وهو فقط البداية". هكذا أعلن الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش دخول الأرض مرحلة "الغليان العالميّ" بعدما انتهى عصر "الاحترار العالميّ" بحسب تعبيره.
يقال إنّ الأرقام القياسيّة وُجدت لتتحطّم. ينبغي على التغيّر المناخيّ أن يكون مستثنى من هذا الكلام. يؤكّد الواقع عكس ذلك. في الولايات المتحدة مثلاً كسر الحرّ أرقاماً قياسيّة كثيرة: درجات الحرارة العليا والدنيا والمدى الزمنيّ لموجات الحرّ. على سبيل المثال، حطّمت أريزونا رقماً قياسياً مسجّلاً في صيف 1974 لعدد الأيام المتتالية التي تخطّت فيها درجة الحرارة 43 درجة مئويّة.
الأحرّ اليوم قد يكون الأبرد غداً
وفقاً لبيانات أوروبّيّة، من المتوقّع أن يكون معدّل درجة حرارة الأرض في شهر تمّوز 2023 أعلى بما لا يقلّ عن 0.2 درجة مئويّة من المعدّل المسجّل في تمّوز 2019 والذي كان الشهر الأحرّ على مدى 174 عاماً من الملاحظات.
كان نصف الأميركيّين تقريباً تحت إنذار الحرّ الشديد يوم الجمعة. تقول مديرة مركز الابتكار في سياسات الحرّ في جامعة ديوك الأميركية آشلي وورد: "لا يمكن للإشارات أن تكون أكثر وضوحاً لجهة أنّ الناس يحتاجون إلى التفكير بطريقة مختلفة عن الطقس. في 30 يوماً. نتوقّف عن الكلام على موجة حرّ. نتحدّث عن فصل. نتحدث عن علامة، عن تحوّل". الأخطر أنّها لا تستبعد أن يكون موسم الحرّ هذا هو "الأبرد" في المستقبل.
"The era of global warming has ended. The era of global boiling has arrived." pic.twitter.com/E4Rrd1a1yH
— DW News (@dwnews) July 28, 2023
أشار الرئيس الأميركيّ جو بايدن منذ أيّام إلى أنّ الحرّ هو الرقم واحد على قائمة الأحوال الجوّيّة أكثر فتكاً في الولايات المتحدة. إنّه يقتل نحو 600 شخص سنويّاً أي "أكثر من مجموع (عدد قتلى) الفيضانات والأعاصير والزوابع".
تؤكّد دراسات عدّة هذا الاتّجاه. يعزو الأطبّاء ذلك إلى أنّ الجسم يرسل دماً أكثر إلى البشرة للتبريد ممّا يترك أعضاء داخليّة كالأمعاء والقلب والكلى معرّضة للضغط الشديد فالانهيار. في 2020، ساهم إجهاد الحرّ الذي ولّدته موجة ضربت النصف الشرقيّ من الولايات المتحدة في وفاة نحو 10 آلاف شخص، وهي حصيلة تجاوزت ضعف عدد القتلى الذي تسبّبت به أعاصير كاترينا وساندي وحرائق كمب فاير وهجمات 11 أيلول.
لا أحد في مأمن
في آسيا، لم يكن الوضع أفضل حيث كسرت درجات الحرارة أرقاماً قياسيّة في الفلبين ووصلت الحرارة في شمال غرب الصين إلى 52.2 درجة مئوية. الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كان على موعد أيضاً مع موجات حرّ شديدة. وشهدت أوروبا أيضاً صيفاً حارقاً خصوصاً بالنسبة إلى الدول الواقعة على سواحل البحر الأبيض المتوسّط الذي حطّم الرقم القياسيّ السابق لحرارة مياهه والمسجّلة في 2003 عند 28.25 درجة مئوية. يوم الاثنين الماضي، بلغت هذه الحرارة 28.71 درجة. ويبدو أنّ أوروبا تحقّق "تفوّقاً" خاصّاً بها على القارّات الأخرى في هذا المجال، إذ إنّها القارّة الأسرع احتراراً حول العالم وفق أحدث البيانات.
قد لا يكون شهر تمّوز الأشدّ حرّاً في القرن أو القرنين الماضيين وحسب. يحتمل أن يكون كذلك بالنسبة إلى الـ120 ألف عام الماضية. لن تكون الدول الواقعة ضمن دوائر العرض العليا القريبة من القطب الشماليّ محميّة من تأثير الاحترار العالميّ. سبق أن شهدت السنوات الماضية درجات حرارة قياسيّة وحرائق في أميركا الشماليّة والدول الاسكندينافيّة وسيبيريا حيث تعرّضت مثلاً كندا وألاسكا لظاهرة القبّة الحراريّة.
Marine species are typically three times more sensitive to changes in temperature because they are usually buffered by the heat capacity of water. We are currently "boiling" their environment off the East Coast of Canada and elsewhere. What will be the long-term consequences? pic.twitter.com/QnY78rpsdy
— Peter Dynes (@PGDynes) July 29, 2023
في الواقع، إنّ المناطق القريبة من القطب الشماليّ تشهد احتراراً أسرع من المناطق الأخرى بمرّتين تقريباً. أحد أسباب ذلك هو أنّ تراجع الغطاء الجليديّ يعني تراجعاً في حجم انعكاس أشعّة الشمس باتّجاه الفضاء. بالفعل، يؤكّد أستاذ الجغرافيا والبيئة في جامعة أونتاريو الغربيّة غوردون ماكبين أنّ درجات الحرارة في كندا ترتفع بضعفي وتيرة الاحترار العالميّ. وفي وقت قد يرى البعض أنّ كلام غوتيريس يحمل شيئاً من المبالغة أو التهويل، يعتقد ماكبين أنّ تحذيرات الأمين العام للأمم المتحدة "قد تأجّلت لسنوات".
حتى أنتاركتيكا التي كانت أقلّ عرضة للتغيّر المناخيّ بحسب ملاحظات استمرّت تقريباً حتى 2016، ربّما بسبب بعض أنماط الطقس والرياح التي تعزلها عن التيارات الهوائيّة الدافئة، شهدت انحساراً قياسيّاً في الغطاء الجليديّ. في 27 حزيران الماضي، وصلت مساحة الجليد فوق مياه أنتاركتيكا إلى 11.7 مليون كيلومتر مربّع وهو أقلّ بنحو 2.6 مليون كيلومتر مربّع من معدّل المساحة الجليديّة في الفترة ما بين 1981 و2010 و1.2 مليون كيلومتر مربّع من الرقم القياسيّ المسجّل في 2022. و"ما يحصل في أنتاركيتكا لا يبقى في أنتاركتيكا" كما يقول العلماء. يؤثّر فقدان المساحات الجليديّة بشكل كبير على ارتفاع مستوى سطح البحر حيث يساهم ذوبان جليد غرينلاند وأنتاركتيكا وحدها في ثلث كمّية المياه المضافة إلى المحيطات والبحار.
أسباب عدّة
تساهم عوامل دوريّة مثل "إل نينيو" بارتفاع حرارة الأرض أكثر، كما هي عليه اليوم. لكنّ هذا العامل يعجز وحده عن تفسير درجات الحرارة القياسيّة التي تشهدها الأرض. علاوة على ذلك، لم تساعد ظاهرة لا نينيا "المبرِّدة" التي سيطرت خلال الأعوام الثلاثة الماضية في كبح جماح هذا الارتفاع. كما أنّ النشاطين الشمسيّ من جهة والبركانيّ من جهة أخرى (في تونغا) لعبا دوراً في موجات الحرّ الحاليّة.
لكنّ السبب الأشمل الذي يدعم كلّ هذه الأرقام القياسيّة هو الاحترار الناجم عن النشاط البشريّ الذي يضخّ غازات الدفيئة في الغلاف الجوّيّ. هذه الخلاصة هي ما توصّلت إليه الغالبيّة الساحقة من علماء الجغرافيا حول الأرض. وتصل هذه النسبة إلى 100 في المئة لدى علماء المناخ الأكثر تخصّصاً.
تظهر الدراسات بشكل متزايد أنّ الاحترار العالميّ الذي تشهده الأرض حاليّاً ليس مجرّد دورة طبيعيّة من دورات التقلّب الحراريّ. في 2019، صدرت دراستان نُشرتا في مجلّتي "نيتشر" و"نيتشر جيوساينس" بيّنتا أنّ معدّل درجات الحرارة في القرن الماضي أعلى ممّا كان عليه خلال الألفيّتين الماضيتين وأنّ الاحترار يسيطر على كامل الكوكب للمرّة الأولى بعكس ما كان يجري في السابق حيث ساد اعتقاد بأنّ ارتفاع أو انخفاض درجات الحرارة كان متجانساً. وخلصت الدراستان أيضاً إلى أنّ وتيرة الاحترار لم تكن يوماً بهذه السرعة.
المقصد
حديث غوتيريش عن الغليان عوضاً عن الاحترار العالميّ قد لا يعبّر عن مصطلح علميّ بالنظر إلى أنّ حرارة غليان المياه هي 100 درجة مئويّة (على الساحل). يعتقد البعض أنّ الاستعداد الأفضل لموجات الحرّ يكون عبر التعامل معها كما يتمّ التعامل مع العواصف والأعاصير: من خلال إطلاق تسميات عليها. يجعل هذا الأمر الناس أكثر استعداداً على المستوى الذهنيّ وأكثر تمتّعاً بالاحتياطات الصحّيّة اللازمة. يمكن القول إنّ كلام غوتيريش يقع في هذه الخانة إلى حدّ ما. "الغليان" أكثر تحفيزاً للدول والمنظّمات والأفراد على التحرّك بالمقارنة مع "الاحترار". ربّما يدفع مصطلح غوتيريش الجديد الدول المشاركة في مؤتمر "كوب-28" إلى الخروج بخطط مناخيّة أفضل. أشهر قليلة ويعرف العالم الجواب.