تبدو محادثات جدّة لافتة للنظر في توقيتها. دعت المملكة العربيّة السعوديّة نحو 40 دولة للمشاركة في مؤتمر يهدف إلى استكشاف آفاق محتملة للسلام بين روسيا وأوكرانيا. يحضر هذه القمّة عدد من دول "الجنوب العالميّ" وهو مصطلح قديم جديد يمثّل الدول المتوسّطة القوّة التي تريد تقديم نفسها بصورة اللاعب الدوليّ المستقلّ عن القوى الكلاسيكيّة العظيمة. مثّلت الحرب على أوكرانيا أبرز ميدان لإظهار هذه الدول حيادها تجاه نزاعٍ ترى إلى حدّ بعيد أنّ تورّطها فيه يؤذي مصالحها القوميّة.
"لسنا نتوسّل"
تأتي محادثات جدّة بعد تعثّر القمّة الأفريقيّة-الروسيّة في سانت بطرسبرغ والتي لم يحضرها سوى 17 رئيساً أفريقيّاً بالمقارنة مع 43 رئيساً في القمّة الماضية التي عقدت سنة 2019. كان عدد من الدول الأفريقيّة غاضباً من انسحاب روسيا من اتّفاقيّة تصدير الحبوب عبر البحر الأسود التي تمّ التوصّل إليها في تمّوز 2019.
وعد الرئيس الروسيّ فلاديمير بوتين بشحن ما بين 25 و50 ألف طنّ من الحبوب إلى ستّ دول بشكل مجّانيّ على مدى الأشهر القليلة المقبلة. وصف القائد الأعلى الأسبق لحلف شمال الأطلسي جيمس ستافريديس مقترح بوتين بأنّه "جزرة". ففي مقابل شحن برنامج الأغذية العالميّ الأمميّ نحو 32 مليون طنّ من الحبوب في عام واحد، يعدّ المقترح الروسيّ هزيلاً. في الواقع، اعتبره البعض شكلاً من أشكال الإهانة. قال رئيس جنوب أفريقيا سيريل رامافوزا: "نودّ أن نرى مبادرة البحر الأسود مطبّقة ويجب أن يكون البحر الأسود مفتوحاً. لسنا هنا لتوسّل تبرّعات للقارّة الأفريقيّة".
كانت بعض الدول الأفريقيّة وفي مقدّمتها جنوب أفريقيا أقرب إلى الحياد في الحرب على أوكرانيا. لهذه الدول مظالم من الاستعمار الغربيّ السابق وتشكّك في سرديّة بروكسل وواشنطن عن النزاع الحاليّ. لكنّ إنهاء روسيا لاتّفاقيّة البحر الأسود يترك تداعيات مباشرة على الاقتصادات الأفريقيّة التي لا تزال تعاني من الآثار السلبيّة لجائحة "كورونا". لم تستطع قمّة سانت بطرسبرغ القيام بالكثير لرأب الصدع، هذا إن لم تشكّل أساساً لتوسّعه في المرحلة المقبلة.
وعد "مستجدّ" بالمساعدة
تعدّ الهند من الدول الحليفة تاريخيّاً مع موسكو وقد امتنعت عن التصويت في الأمم المتحدة لمصلحة إدانة الغزو الروسيّ لأوكرانيا كما استمرّت أيضاً في شراء النفط الروسيّ بأسعار مخفّضة. لكنّ شيئاً ما بدأ يتغيّر بعد قمّة مجموعة السبع التي استضافتها اليابان في أيّار الماضي. حينها طمأن رئيس الوزراء الهنديّ ناريندرا مودي الرئيس الأوكرانيّ فولوديمير زيلينسكي بأنّه سيبذل "كلّ ما بوسعه" للمساعدة على إنهاء الحرب.
بعد أيّام من اللقاء، حثّ مودي بوتين على "الحوار والدبلوماسيّة" لإنهاء الحرب. والتقى مستشار مودي للأمن القوميّ أجيت دوفال ومدير مكتب الرئيس الأوكرانيّ أندريه يرماك لمناقشة خطّة كييف للسلام المؤلّفة من عشر نقاط. برز بعض التباين بين الهند وروسيا قبل القمّة. تراجع مودي عن عقد قمّة روسيّة-هنديّة سنويّة في كانون الأوّل الماضي، بفعل تهديد بوتين باستخدام سلاح نوويّ. لا شكّ في أنّ التوتّر الهنديّ-الصينيّ يلعب دوراً في تقرّب نيودلهي من واشنطن والإصغاء أكثر إلى مطالب كييف.
ضربات متتالية
لطالما أثارت تركيا الجدل بشأن مدى التزامها بموقعها الأطلسيّ. ازدادت المخاوف بشأن الدور التركيّ "السلبيّ" في الناتو بعد شرائها منظومة "أس-400" الروسيّة. ورفضت تركيا الالتزام بالعقوبات الغربيّة على روسيا كما عرقلت طويلاً انضمام السويد إلى حلف شمال الأطلسيّ على قاعدة أنّ الأخيرة تؤوي "إرهابيّين" بحسب وصف أنقرة. لكنّ تركيا أسقطت عرقلتها قبيل قمّة فيلنيوس موجّهة ضربة إضافيّة إلى روسيا مع تعزيز مكانة الناتو في بحر البلطيق. لكنّ ما يفترض أن يمثّل ضربة أكبر هو افتتاح أنقرة مصنعاً في أوكرانيا منذ نحو شهرين لصناعة مسيّرات "بيرقدار" التي لم توقف تركيا تسليمها إلى أوكرانيا بعد الغزو.
لكنّ الضربة الكبرى خلال الأسابيع القليلة الماضية كانت قبول أنقرة إعادة كبار مقاتلي "آزوف" إلى أوكرانيا بعدما كان يفترض أن يبقوا في تركيا حتى نهاية الحرب. وصف الكرملين خطوة تركيا بأنّها "انتهاك" للاتّفاقيّة القائمة التي تبادلت فيها روسيا وأوكرانيا أسرى حرب بوساطة تركيّة. وتتضرّر تركيا أيضاً من إلغاء روسيا اتفاقية الحبوب إذ إنّ وارداتها من الحبوب الأوكرانيّة تساوي تقريباً ربع وارداتها العالميّة من هذه السلعة. مع ذلك، تعتقد أوكرانيا أنّ تركيا هي الدولة الوحيدة القادرة على إقناع موسكو بالعودة إلى الاتّفاقيّة. البارز أيضاً في العلاقة التركيّة-الأوكرانيّة هو أنّ الرئيس التركيّ رجب طيب أردوغان أعلن بكلمات لا لبس فيها تأييده انضمام كييف إلى الناتو. إنّها خطوة، إلى جانب كونها مثيرة للقلق في الكرملين، تعدّ أكثر تقدّماً من الموقفين الألمانيّ والأميركيّ في هذا الإطار.
مشهد غريب
من سلام "القبضة" بين الرئيس الأميركيّ جو بايدن وووليّ العهد السعوديّ الأمير محمد بن سلمان إلى رفض السعوديّة مطالب الإدارة الأميركيّة بوقف خفض الإنتاج النفطيّ، كان واضحاً أنّ العلاقات السعوديّة-الأميركيّة لم تكن في أفضل أحوالها خلال ولاية الإدارة الحاليّة. بالمقابل، كانت العلاقات السعوديّة-الروسيّة تشهد بالحدّ الأدنى مظهراً من مظاهر الاستقرار. لكنّ عدم دعوة الرياض موسكو لحضور محادثات جدّة يطرح علامات استفهام عن السبب أو الأسباب خلف ذلك. حتى روسيا بدت متفاجئة من هذه الخطوة قائلة إنّها ستتابع الحدث عن كثب: "نحن بحاجة إلى فهم الأهداف المحدّدة وما ستتمّ مناقشته"، بحسب ما قال الناطق باسم الكرملين دميتري بيسكوف. لكنّه أضاف أنّ "نظام كييف لا يريد ولا يستطيع أن يريد السلام".
يبدو أنّ أحد الأسباب المحتملة لعدم توجيه الدعوة إلى الروس هو الخلاف السعوديّ-الروسيّ حول سياسة الطاقة كما ذكرت "نيويورك تايمز". وسرت أنباء في وقت سابق من هذه السنة عن أنّ السعوديين ممتعضون من الروس لأنّهم لا يلتزمون بما يُتفق عليه في "أوبك بلس" حول خفض الإنتاج. بصرف النظر عمّا إذا كانت هذه الفرضيّة صحيحة أم لا، يبقى غياب روسيا عن محادثات جدّة مشهداً لافتاً بحدّ ذاته خصوصاً إذا ما قورن بحضور أوكرانيا والولايات المتحدة وأوروبا والصين ودول بارزة في "الجنوب العالميّ" كالهند وتركيا وجنوب أفريقيا. مهما كانت النتيجة الصادرة عن تلك المحادثات، ستملك أوكرانيا فرصة تعزيز سرديّتها للحرب على عكس روسيا. وتحدّث مصدر أوروبّيّ لوكالة "فرانس برس" عن مساحة تفاهم حول النقاط الرئيسيّة وخصوصاً احترام "وحدة أراضي أوكرانيا وسيادتها" على أن يكون هذا الأمر "في صلب ايّ اتفاق سلام". وهذا مكسب ملحوظ بالنسبة إلى أوكرانيا.
ماذا يعني كلّ ذلك؟
من المبكر الحديث عن اقتراب "الجنوب العالميّ" من موقف أوكرانيا بشأن الحرب. لا تزال الهند تجد في موسكو إحدى الضمانات بوجه التمدّد الصينيّ في آسيا، كما يستبعد حدوث شرخ كبير بين السعوديّة وروسيا في ظلّ عدم استقرار العلاقات بين واشنطن والرياض وأهمّيّة تنسيق المواقف في "أوبك بلس". وبالرغم من مشاكل أفريقيا مع انسحاب روسيا من اتّفاقيّة الحبوب، ربّما ستظلّ جنوب أفريقيا مشكّكة بالسرديّة الغربيّة حيال الحرب في أوكرانيا. مع ذلك، يُسجّل لها حضورها المحادثات في وقت امتنعت المكسيك عن تلبية الدعوة بسبب تغييب روسيا.
ويفضّل أردوغان أيضاً عدم إصابة روسيا بضعف شديد كي يتمكّن من انتزاع تنازلات أكبر من الغرب. ولا تزال دولة كالبرازيل تفضّل إلى الآن البقاء على الحياد تجاه الحرب للإبقاء على إرثها السياسيّ منذ الحرب الباردة إضافة إلى استفادتها من العلاقات التجاريّة مع روسيا التي تعزّز صناعتها الزراعيّة. في جميع الأحوال، ينبغي على هذه الدول وغيرها موازنة مواقفها تجاه أوكرانيا في حسابات غالباً ما تكون معقّدة.
بالرغم من هذه الحسابات، يبدو أنّ أوكرانيا تحقّق اختراقاً ولو طفيفاً في هذه الناحية من العالم. خاض المسؤولون الأوكرانيّون عدداً من الجولات في أفريقيا خلال الشهرين الماضيين وشرعت كييف في افتتاح المزيد من السفارات فيها. ربّما تنجح أوكرانيا حاليّاً وبشكل تدريجيّ في إيصال صوتها خارج المنتديات الغربيّة. قد يساعدها في ذلك تضرّر الدول الفقيرة من استمرار الحرب كما من خطوات بوتين التي يبدو أنّها تفيد كييف عن غير قصد. واضحٌ أنّ المواقف الأخيرة لـ"الجنوب العالميّ" حيال روسيا وأوكرانيا مختلفة إلى حدّ ما عمّا كانت عليه قبل بضعة أشهر. الأمر غير الواضح هو ما إذا كان هذا الاختلاف يعبّر عن سياسة طويلة المدى أو عن مجرّد حالة موقّتة. ثمّة الكثير لمراقبته على هذا الصعيد في المرحلة المقبلة.