النهار

كيسنجر في عامه المئة
جورج عيسى
المصدر: "النهار"
الديبلوماسيّ و"الأسطورة"
كيسنجر في عامه المئة
هنري كيسنجر، 1973 (أ ب)
A+   A-

أن تبلغ سنّ المئة وأنت محتفظ بشيء من الصحّة الجسديّة نعمة نادرة. أمّا أن تبلغ سنّ المئة وتواصل إطلالاتك الإعلاميّة والاستشاريّة في شؤون السياسة والتاريخ والديبلوماسيّة فمهمّة شبه مستحيلة. إذا أضيفت إلى كلّ ذلك ذاكرة استثنائيّة وغزارة في تأليف الكتب فأنت حتماً هنري كيسنجر.

بحسب الموقع السياسيّ والجغرافيّ للمراقب، يمكن تحديد موقفه من الديبلوماسيّ الأميركيّ الذي احتفل السبت ببلوغه عامه المئة. لا يحتفظ الليبيراليّون بنظرة إيجابيّة إلى كيسنجر. بفعل انتمائه إلى "الواقعيّة السياسيّة"، ينتقد الليبيراليّون كيسنجر لعدم اهتمامه بالقيم الأميركيّة في نشاطه الديبلوماسيّ، إن لم يكن بتعمّد انتهاكها في بعض الأحيان. انصبّ اهتمام كيسنجر باكراً على النظام الدوليّ في القرن التاسع عشر. كتابه الأوّل كان عن التوازن بين القوّة والشرعيّة في نهاية الحروب النابوليونيّة. لا شكّ في أنّ اهتمام كيسنجر بتوازن القوى في أوروبا القرن التاسع عشر ترك أثراً جليّاً على طريقة تفكيره. ففي أواسط القرن نفسه، برز مفهوم "الواقعيّة السياسيّة" مع عودة تفاهم البورجوازيّة والملكيّة في دول أوروبّيّة عدّة وتخلّيها عن أفكار ثورة 1848. يعتقد كيسنجر أنّ جزءاً من عناصر الاستقرار التي حكمت أوروبا في القرن التاسع عشر لا يزال حاضراً في القرن الحادي والعشرين وفي أيّ ديبلوماسيّة: الدولة ومصالحها كلاعب أساسيّ.

 

تجربة الانفتاح على الصين

مع انتشار القوّة النوويّة التي حرمت أيّ دولة من تحقيق هيمنة مطلقة، واصل كيسنجر الاهتمام بكيفيّة تلافي حرب مدمّرة. طغى ذلك على فكرة الترويج للقيم الأميركيّة. هو يتحدّث، بعكس كثر، عن أنّ المؤمنين بشموليّة القيم الليبيراليّة أكثر استعداداً من سواهم لاستخدام القوّة. لكنّ سياسات كيسنجر في بعض الملفّات ظلّت تغضب مراقبين حتى من الناحية الواقعيّة. يصف طالب الدكتوراه في التاريخ في جامعة تكساس دانيال سامِت كيسنجر بأنّه "غالباً ما يكون مخطئاً، لكن غير مشكّك قطّ – أقلّه ليس في ما يتعلّق بالصين". لقد ردّ كيسنجر بـ"لا" حاسمة على سؤال إعلاميّ أوائل الشهر الحاليّ بشأن ما إذا كان وضع واشنطن أسوأ بعد الانفتاح على بكين. بحسب سامت، استبدلت أميركا حليفتها تايوان ببكين واستفادت الصين من الأموال التي حقّقتها عبر الانفراجة السياسيّة لتبني ثاني أعظم جيش بينما حرمت العلاقات الثنائيّة الأميركيّين من ملايين الوظائف التصنيعيّة وتسبّبت بخسارة المليارات بفعل "سرقة" الملكيّة الفكريّة.

حتى مع افتراض أنّ العلاقة بين الطرفين خدمت بشكل غير متوازن مصلحة الصين، قد لا يتحمّل كيسنجر وحده مسؤوليّة المبادرة تجاه بكين. ثمّة أدلّة إلى أنّ هذه الفكرة كانت في الأساس اقتراح الرئيس ريتشارد نيكسون. ديفيد روثكوبف الذي عمل كنائب لوزير التجارة في إدارة بيل كلينتون وعمل أيضاً مع كيسنجر في مؤسّسته من أصحاب هذه النظريّة. الأهمّ من ذلك إشارة روثكوبف إلى ارتكاب الديبلوماسيّ الأسبق "أخطاء رهيبة" في كمبوديا ولاوس إلى وقوفه بجانب "الرجال السيّئين" في إندونيسيا وتشيلي.

 

"الجانب المظلم"

قصد روثكوبف بذلك حملة القصف التي شنّتها الولايات المتحدة بقيادة نيكسون على كمبوديا ولاوس لإفهام فيتنام الشماليّة أنّ واشنطن كانت مستعدّة لزيادة حدّة الحرب، بالتوازي مع المفاوضات التي كانت تديرها الإدارة مع الفيتناميّين في فرنسا. اللافت أنّ حملات القصف العنيف ومفاوضات السلام كانت تجري بشكل سرّيّ حتى عن الكونغرس، وهي صفة أخرى أضرّت بسمعة كيسنجر. ولم يساعده أكثر الكشف عن عدد ضحايا قصف كمبوديا (أكثر من 150 ألف قتيل) ولا سقوط فيتنام الجنوبية أمام الشمال بعد عامين على توقيع اتفاقية باريس للسلام. والأمر نفسه انطبق على الضوء الأخضر الذي أعطاه الرئيس جيرالد فورد وكيسنجر نفسه للقائد العسكريّ الإندونيسيّ سوهارتو كي يحتلّ تيمور الشرقيّة لإطاحة "الجبهة الثوريّة لتيمور شرقيّة مستقلّة" ذات التوجّهات اليساريّة. ويعدّ جهد كيسنجر لتقويض حكم سالفادور أليندي ودعم أوغوستو بينوشيه في تشيلي جزءاً من "الجانب المظلم" لشخصيّته.

لكنّ الأستاذ الفخريّ للسياسة الخارجيّة الأميركيّة في كلّيّة جونز هوبكينز للدراسات الدوليّة المتقدّمة مايكل ماندلباوم يردّ على هذه الانتقادات وغيرها عبر التذكير بأنّ كيسنجر ليس أوّل ولا آخر مسؤول أميركيّ سيتجاهل قضايا حقوق الإنسان للدفاع عن مصلحة بلاده القوميّة. وإضافة إلى إشادته بتطوير كيسنجر المهارة الديبلوماسيّة علماً أنّها مهارة عادة ما ينمّيها دراسو الحقوق والأعمال، لفت إلى أنّ الانفتاح على الصين لا يبدو الآن حنكة استراتيجيّة، لكن في ذلك الوقت كان ردّاً على تهديد ملحّ. وأشاد أيضاً بديبلوماسيّته التي أوقفت حرب 1973 وسمحت لأميركا بالانصراف إلى مواجهة الاتّحاد السوفياتيّ.

 

كيسنجر... "الأسطورة"

في تخطٍ لثنائيّة "مانويّة" تحيط بتقييم منطلقات كيسنجر السياسيّة والأخلاقيّة، يرى صاحب كتاب "الواقعيّ الغريب الأطوار: هنري كيسنجر وصناعة السياسة الخارجيّة" ماريو دل پيرو أنّ الديبلوماسيّ الأسبق لم يكن مبتكراً في سياساته بل مجرّد عاكس لـ"الموضة" السياسيّة. يعتقد دل پيرو، وهو أستاذ العلوم السياسية في معهد باريس للدراسات السياسيّة، أنّ "أسطورة" كيسنجر لا تنبع فقط من قدرته على الترويج لنفسه كقارئ دقيق للوقائع ومجرّد من العواطف. هو يستفيد من تذبذب الولايات المتّحدة بين المشاريع الحماسيّة لإنقاذ وتحويل بعض المناطق حول العالم من جهة وخيبات الأمل الهائلة التي تعقبها مطالبات عالميّة بالانسحاب الأميركيّ من جهة أخرى. فخلال الأزمات والشك بالذات، قدّمت توصيات كيسنجر الواضحة طريقة بسيطة للخروج من أيّ معضلة: اِتّبعوا المصلحة القوميّة وتخلّوا عن فكرة أنّ العالم سيصبح أفضل.

إذا كان دل پيرو محقّاً في أمثلة عدّة عن أخطاء كيسنجر كقناعته بثبات الثنائيّة القطبيّة وتفوّق موسكو التقنيّ واستناده إلى تطبيق نظرة ضيّقة لصراع الحرب الباردة على مناطق تطلّبت نهجاً متعدّد الأبعاد، فإنّ اتّهامه بتغيير سياساته لا ينقص من قيمة كيسنجر. على سبيل المثال، يعيب دل پيرو على كيسنجر مواصلة الحرب على فيتنام بعد تردّد أوليّ كما يسخر من ادّعائه أنّ فيتنام أصبحت مهمّة بمجرّد تورّط أميركا فيها. قد يبدو كلام كيسنجر غير منطقيّ، لكنّ تراجع واشنطن عن التزاماتها بدون حفظ بعض من ماء الوجه كان سيوجّه ضربة إلى صدقيّة الأميركيّين في ذروة الحرب الباردة. كان الخيار بين تلقّي هذه الضربة بكامل قوّتها ومحاولة تخفيف وقعها. عمل الأميركيّون على الخيار الثاني، وإن من دون نجاح كبير (على الأقلّ حصد كيسنجر جائزة نوبل للسلام سنة 1973). وفق ماندلباوم من كلّيّة جونز هوبكينز، يمكن الجدال في ما إذا كان خيار مواصلة الحرب مضلّلاً، "لكنّه لم يكن غير عقلانيّ ولا غير مشرّف في ذلك الوقت".

 

أوكرانيا والمستقبل

في إشارة حديثة إلى أنّ الديبلوماسيّ الأسبق قادر على إعادة تقييم مواقفه من دون الشعور بالإحراج، تحدّث في الآونة الأخيرة عن أنّ منع أوكرانيا من الانضمام إلى الناتو لم يعد ذا قيمة بعدما طالب لفترة طويلة بإغلاق أبواب الحلف أمامها. لم ينطلق كيسنجر من فكرة وجوب الدفاع عن أوكرانيا وحسب، إنّما أيضاً من فكرة أخرى تتعلّق بالتوازنات في أوروبا. فخلال مقابلة حديثة مع "إيكونوميست" استمرّت نحو 8 ساعات، انتقد كيسنجر الغربيّين الذين يريدون الامتناع عن منح كييف العضويّة الأطلسيّة ويستعيضون عنها بتحويل أكبر مقدار ممكن من الأسلحة إليها. هذا سيجعل أوكرانيا بحسب رأيه أقوى دولة عسكريّة في أوروبا لكن مع قيادة تفتقر كثيراً للخبرة الاستراتيجيّة. بهذا المعنى، يريد كيسنجر حماية أوكرانيا، لكن أيضاً ضبطها.

لا يزال الحكم على مسيرة كيسنجر أمراً منوطاً بالمستقبل وإن يكن المرجّح استمرار الانقسام بشأنها بين الواقعيّين والليبيراليّين. ترفع الإدارات الأميركيّة المتعاقبة السرّيّة عن بعض المستندات التي تعود إلى فترات متنوّعة، من بينها تلك التي خدم خلالها كيسنجر في أرفع المناصب (1969-1977)، ويمكن أن تضيء أكثر على عثرات ونجاحات مسيرته. الأهمّ بالنسبة إليه هو مواصلة السير نحو المستقبل بالمزيد من الحماس. على ما يبدو، وبحسب "إيكونوميست"، لا يزال في جعبة الديبلوماسيّ الأسبق المزيد من الكتب للقرّاء المهتمّين بطبيعة التحالفات والذكاء الاصطناعيّ.

أن تواصلَ التطلّع إلى الأمام وأنت في عمر المئة يعني أيضاً أن تكون هنري كيسنجر.

 

اقرأ في النهار Premium