النهار

لماذا يخسر ماكرون أفريقيا؟
جورج عيسى
المصدر: "النهار"
والأهمّ، هل الخسارة قابلة للتعويض؟
لماذا يخسر ماكرون أفريقيا؟
الرئيس الفرنسيّ إيمانويل ماكرون (أ ب)
A+   A-

ثمانية انقلابات أفريقيّة منذ 2020. ستّة منها في مستعمرات فرنسيّة سابقة. أحياناً شهد البلد نفسه انقلابين منذ ذلك الحين. وليس واضحاً ما إذا كان الانقلاب في الغابون هو الأخير أو الآخر. "تأثير الدومينو" يهدّد بتدمير إرث – مثير للجدل – بنته فرنسا في أفريقيا طوال 150 عاماً. جميع المظالم التاريخيّة وأخطاء الحكومات الفرنسيّة المتعاقبة ونتائج الصراعات القارّيّة تكثّفت في عهد رئيس واحد: إيمانويل ماكرون. حظّ سيّئ أم سياسات متعثّرة؟

يحبّ الرئيس الفرنسيّ إيمانويل ماكرون أنّ يتحدّث بنبرة ورؤية ديغوليّتين. ما يحدث في أفريقيا يعاكس هذه الرؤية. "كانت القوّة الفرنسيّة العالميّة والقوّة الفرنسيّة في أفريقيا مرتبطتين بشكل لا ينفصم وتؤكّدان بعضهما بشكل متبادل" على ما قاله الرئيس الأسبق. ينظر البعض إلى هذا الكلام، وبصورة أوسع إلى العلاقة الفرنسيّة مع دول أفريقيّة كثيرة، من منظور استعماريّ بحت. تقول الناشطة السويسريّة-الكاميرونيّة ناتالي يامب إنّ "فرنسا عظيمة فقط حين تتسلّق أكتاف أفريقيا"، فيما يلفت آخرون إلى ممارسات "استعلائيّة وأبويّة".

الملاحظ أنّ هذه التوصيفات لا تأتي فقط على لسان أفارقة، وإنّما في تقارير غربيّة أيضاً. في حديث إلى "نيويورك تايمز"، يقول المؤرّخ الذي ألّف كتاباً عن عمليّات فرنسا العسكريّة في تشاد نثانييل باول إنّه حصل اعتراف متأخّر من قبل ماكرون والقيادة العسكريّة الفرنسيّة بأنّه كان هناك حاجة إلى استعلاء أقلّ في التعامل مع أفريقيا. لو تبنّت فرنسا ذلك النهج في وقت مبكر لما وجدت نفسها في الوضع الحاليّ، بحسب باول.

 

مفارقة "استعماريّة"

خسائر فرنسا موزّعة على مستويات عدّة. هي لا تفقد فقط عائلات حاكمة كانت صديقة لها على مدى عقود من الزمن، كما هي الحال مع عائلة بونغو التي حكمت الغابون لأكثر من نصف قرن من الزمن. الخسارة ثقافيّة أيضاً.

لاحظ الفرنسيّون أنّ استخدام اللغة الفرنسيّة في شمال أفريقيا تراجع خلال العقود القليلة الماضية. اعترف المسؤولون هناك بمفارقة مفادها أنّ عدد الناطقين باللغة الفرنسيّة يزداد من الناحية الديموغرافيّة بفعل النموّ السكّانيّ لكن في الوقت نفسه يتراجع تعلّم اللغة الفرنسيّة. ويبدو أنّ هذا التراجع مقصود في بعض الأحيان. بالرغم من أنّ الغابون كانت صديقة للفرنسيّين في الفترة الماضية، قرّرت سنة 2022 الانضمام إلى الكومنولث البريطانيّ. رافقتها توغو، وهي أيضاً دولة فرنكوفونيّة لا يربطها ببريطانيا أيّ روابط استعماريّة أو ثقافيّة أخرى. وهذا ما حصل أيضاً مع رواندا سنة 2009. بينما نظر بعض المحلّلين في أفريقيا إلى ذلك على أنّه ضربة لفرنسا، اعتقد آخرون أنّ الأمر مجرّد تنويع للعلاقات الخارجيّة للاستفادة المادّيّة بعد "بريكست" وانتشار اللغة الإنكليزيّة في مجالات التجارة والإنترنت وغيرها.

يسلّط هذا الأمر الضوء على مفارقة أخرى في السياسة الخارجيّة لبعض الدول الأفريقيّة. إذا كان البعض يلجأ إلى الكومنولث لتحسين ظروفه الاقتصاديّة فهذا يعني، أو يؤكّد، أنّ المظالم من الاستعمار لا تلخّص كلّ الصورة. وإلّا لماذا استبدال دولة ذات ماضٍ استعماريّ بدولة أخرى ذات ماضٍ مشابه.

وهذا ما يقوله محلّل الشؤون الأفريقيّة إيمانويل بنساه في حديث إلى "دي دبليو" الألمانيّة. "سترى أنّ الدول الأنغلوفونيّة لم تحمل السلاح ومع ذلك لا زلنا في منطقة جنوب الصحراء نفسها". أحد أسباب ذلك بحسب رأيه وجود مجتمع مدنيّ وإعلام حيويّ في تلك البلاد.

 

"ازدواجيّة معايير"

لا يعفي مراقبون آخرون فرنسا من "ازدواجيّة المعايير" في العلاقات مع الدول الأفريقيّة. فقد دعمت باريس، بحسب محلّل الشؤون الأفريقيّة في "معهد أبحاث السياسة الخارجيّة" كوملان أفوليت، السلالات الحاكمة غير الديموقراطيّة في دول مثل تشاد والغابون، لكنّها أسندت عقوباتها على الحكّام الماليّين والغينيّين إلى ضرورة تطبيق المبادئ الديموقراطيّة. وفي حين تستثمر شركات فرنسيّة في مناطق نيجريّة لاستخراج اليورانيوم، تبقى المجتمعات المحيطة بمراكز التنقيب غير مزدهرة.

ويبدو أنّ فرنسا غير حريصة دوماً على مبدأ الشفافية لدى بعض الحكّام في مستعمراتها السابقة. امتلك الرئيس عمر بونغو مثلاً منزلاً في باريس بقيمة 20 مليون يورو وفيلا في نيس بقيمة 12 مليون يورو وسيارات بقيمة مليون يورو وثياباً بالقيمة نفسها تقريباً بحسب تقرير في صحيفة "تايمز" البريطانيّة. وأضاف التقرير أنّ هذه العائلة دعمت ماليّاً أحزاباً فرنسيّة طوال عقود حتى انكشفت الفضيحة سنة 2001. وأثارت العلاقات المباشرة مع رؤساء الدول القريبة من فرنسا تساؤلات أخرى في الإطار نفسه. كذلك، تركت باريس مستعمراتها السابقة في حال ضعيفة دفعتها إلى الاعتماد عليها في المجال الأمنيّ خصوصاً، كما كتب أفوليت. ولم يساعد تاريخ التدخّل الفرنسيّ في المنطقة بإسقاط التصوّر السلبيّ الذي يرسمه المواطنون في بعض الدول الأفريقيّة تجاهها، حيث أحصى المحلّل البارز للشؤون الأفريقيّة في "مجلس العلاقات الخارجيّة" إبينيزير أوبادار 19 تدخّلاً فرنسيّاً خلال ثلاثين عاماً.

 

خطأ ماكرونيّ؟

بطبيعة الحال، ليست فرنسا مسؤولة دائماً أو بشكل كامل عن تصرّفات أصدقائها. فعلي بونغو مختلف عن أبيه مثلاً في أنّه أكثر تشدّداً ورفضاً للحوار مع مواطنيه. كما أنّها ليست مسؤولة عن الخلافات داخل النخبة الحاكمة نفسها حيث يعدّ قائد الانقلاب في الغابون الجنرال برايس أوليغي نغيما مساعداً لعمر بونغو (تجمعه به علاقة قربى أيضاً). كذلك، لا علاقة لفرنسا برغبة الرئيس النيجريّ المخلوع محمد بازوم إقالة رئيس الحرس الجمهوريّ عبد الرحمن تشياني غير المحصّن هو الآخر من اتّهامات بالاختلاس، وهو قرار أدّى في نهاية المطاف إلى إطاحة بازوم.

واعترفت فرنسا بارتكاب أخطاء أخرى. على سبيل المثال، انتقدت "لجنة المحاسبة الوطنيّة" الفرنسيّة سنة 2021 استراتيجيّة باريس في مالي لأنّها ركّزت على الجانب العسكريّ على حساب الجانب الماليّ الذي شهد تراجعاً في الأعوام الأخيرة.

ويعزى جزء من أسباب تراجع النفوذ الفرنسيّ في أفريقيا إلى ديبلوماسيّة فرنسيّة خاطئة. يشير مراقب الشؤون الفرنسيّة غافين مورتيمر إلى استبدال ماكرون وزير خارجيّته المخضرم في الشؤون الأفريقيّة جان-إيف لودريان وإلى إدخال تعديلات أخرى على السلك الديبلوماسيّ تحرمه من اكتساب الخبرة بسبب اعتماد المداورة.

 

تأخّر... لم يتأخّر

إنّ الإقرار الفرنسيّ بضرورة التحدّث إلى الشعوب الأفريقيّة إلى جانب القادة، ربّما يأتي متأخّراً بحسب البعض. لكنّه ليس كذلك بحسب أوبادار من "مجلس العلاقات الخارجيّة". بالنسبة إليه، يعبّر الحديث عن مواجهة "الاستعمار" الغربيّ عن أداة تعبئة للنخب الحاكمة أكثر من تعبيرها عن سياسة جدّيّة. فإلى جانب موجات الهجرة غير الشرعيّة والمحفوفة بالمخاطر الآتية من أفريقيا باتّجاه أوروبا، ثمّة نحو 20 ألف أكاديميّ أفريقيّ يتوجّهون سنويّاً إلى الغرب للتعلّم منه. يبيّن كلّ ذلك أنّ جزءاً من عقل وقلب المؤثّرين والمواطنين الأفارقة لا يزال في الغرب، وفرنسا جزء منه.

بالفعل، ليست كلّ المؤشّرات الأفريقيّة سلبيّة بالنسبة إلى مستقبل فرنسا في تلك القارّة. إذا كانت باريس تخسر في بعض القطاعات كالمصارف والبناء، فهي لا تزال حاضرة على مستوى الطاقة وبعض القوّة الناعمة والعلاقات التجاريّة مع دول كبيرة مثل مصر وجنوب أفريقيا ونيجيريا. أمّا روسيا التي اتّهمها ماكرون بتعمّد الإضرار بالمصالح الفرنسيّة الأفريقيّة ضمن سياسة "افتراسيّة" فهي لا تزال بعيدة من أن تكون لاعباً قويّاً في أفريقيا، بالمقارنة مع القوى الكبيرة الأخرى، بحسب أرقام مجلّة "إيكونوميست".

بين الخوف من تمدّد عدوى الانقلابات إلى دول أفريقيّة أخرى والتفاؤل بمستقبل فرنسيّ أفضل معها، تقف باريس على مفترق طرق أساسيّ؛ ليس فقط بالنسبة إلى علاقتها مع أفريقيا، بل أيضاً بالنسبة إلى قوّتها العالميّة. هذا إن كان على المراقبين أخذ كلام ديغول بالاعتبار.  

 

اقرأ في النهار Premium