رولا حميد
يروي طبيب الأسنان محمد.أ. أن أخاه الصيدلي مؤمن يعاني حالياً من أزمة نفسية شديدة، وذلك لشعوره بالذنب لأنه أقنع صديقه س.د. وعائلته من منطقة الشجاعية في غزة للانتقال إلى بيته في المنطقة الوسطى.
ويقول محمد لـ"النهار" أن مؤمن أصرّ على صديقه بعد تهديدات الاحتلال، واشتداد القصف على المنطقة التي كان يسكن فيها للهروب إلى منطقته لخوفه عليهم، وعندما اقتنع وقرر المغادرة هو وزوجته وأولاده وعائلته إلى مدينة النصيرات، تمّ قصف السيارات على طريق صلاح الدين الذي يربط الشمال بالجنوب، واستشهد صديقه، وزوجته وأولاده وعائلته كلها، ومنذ تلك اللحظة ومؤمن يعاني من أزمة نفسية حادة لاعتقاده أنّه كان السبب في موتهم.
أمّا ل.ع. فيحكي معاناته وعائلته في اتصال مع "النهار"، ويقول: "لقد تضرر منزلنا من شدة القصف في المربع المتاخم لمنزلنا في منطقة الكرامة، ما دفعنا إلى الهروب إلى منطقة النصر مشياً على الأقدام في منتصف الليل الى بيت جدي، الذي يبعد نصف ساعة وأقمنا عنده ثلاثة أيام، ثم بدأ القصف هناك أيضاً، وتبلّغنا بتحذيرات بالقصف، فقررنا الانتقال إلى أقارب زوجتي في منطقة خانيونس".
أضاف: "المشكلة أنّه لا يوجد مكان آمن في كلّ أنحاء غزة، وحالياً نتقاسم الحياة مع بعضنا بعضاً تاركين أمرنا لله. الوضع صعب جداً، فمياه الشرب شحيحة، وأشرفت على النفاد، أمّا الأكل فنأكل لسدّ حاجة الجوع فقط وبما تيسّر".
روايتان سريعتان تدفعان للتساؤل عن وحشية وشراسة ما تتعرض له غزة بالقصف الإسرائيلي، ولا يختلف اثنان أنّ ما يجري حالياً، غير مسبوق بوحشيّته، وقساوته، اللهم إلّا في ما تعرّضت له هيروشيما اليابانية نهاية الحرب العالمية الثانية.
في غضون أيام قليلة، وربما في ساعات القصف الأولى التي نفّذها الطيران الإسرائيلي، طاولت غزة عمليات تدمير هائلة للمنازل، والأبنية المأهولة، فهوت على من فيها من سكان آمنين، لا ذنب لهم في ما يجري سوى أنهم غزاويّون.
في ساعات قليلة جرى تدمير آلاف الأبنية، وبلغ عدد البيوت المدمرة، وفق مصادر السكان في غزة، عشرة آلاف مسكن، وتحتها آلاف السكان الذين لم تسمح ظروف القصف الوحشي من إحصائهم، منهم الأحياء، لكن ليس لهم من يسعفهم، وينقذهم، وهم يواجهون الموت المحتّم، ومنهم الأموات.
لماذا كل هذه القساوة في القرن الواحد والعشرين؟ لمَ لم تتعلّم البشرية من دروس الماضي قيمة الإنسان؟
مهما كانت المبررات، فإنّ ما جرى لا يقبله عقل، ولا تتحمله إرادة بشرية. ويعتقد البعض أن الوحشية سببها أن الهجوم الذي جرى في السابع من تشرين الأول، أدى إلى ضرب مشروع إسرائيلي متكامل يهدف لتحويل الكيان الإسرائيلي إلى محطة استقطاب اولى للمنطقة، خصوصاً منها لدول الخليج على الصعد الاقتصادية والمالية والسياحية والتجارية.
أمّا لماذا تهجير سكان غزة، ورفض الرئيس المصري لذلك، فعلاوة على بعده الإنساني، سببه مشروع إسرائيلي بإقامة قناة بديلة من "السويس"، المنعشة للاقتصاد المصري، تبدأ القناة الاسرائيلية من غزة، وتنتهي في مرفأ إيلات، وهذا يقتضي إزالة غزة لتحقيق المشروع.
السيسي رفض نقل سكان غزة رغم الضغوط الكبيرة عليه من قبل الإسرائيليين والأميركيين، لما يشكّله من خطر على الاقتصاد المصري.
سكان غزة ضحية كل تلك المشاريع، يعانون ما لا يوصف، وكتب م.ع. لـ"النهار":
نكتب من وسط الجراح والمعاناة، من قلب الحزن والمآسي والجراح، من قطاع - غزة المُصاب، وكأن هذا القطاع قد عُزل عن العالم، أو لربما أغمض العالم عيونه عن غزة!
لم يعد هنا سوى الخوف، والذعر يجول هنا وهناك في كلّ أزقة القطاع، في قلب الأم والطفل والطبيب والمريض والمسعف وكلّ كائن على هذه الأرض.
نكتب ولسنا ندري إن كان صوتنا سيصل إلى أحد!
وإن وصل، هل سيسمعه أحد أم سيغلق الجميع آذانهم كعاداتهم!
المكان هنا أصبح لا شيء. كنا نعاني من أزمة في الكهرباء، أمّا الآن فلا يوجد كهرباء أساساً، لم تعد تهمّنا الإضاءة فلم نعد نعرف غير الظلام!
أمّا بالنسبة إلى الماء، فأهل غزة أكثر من يستشعر الآن قول الله عزّ وجل: (وجعلنا من الماء كلّ شيءٍ حيّ). فلا مياه صالحة للشرب هنا. قطع المُحتل مصادر المياه التي تزوّد غزة، وانتزع من أبنائها أبسط مقومات الحياة.
والطعام! لم نعد ندري هل سنستطيع توفير قُوت يومنا أو على الأقل بعضاً من طعام يبقينا على قيد الحياة! يتسابق الناس من محلٍ إلى آخر لشراء بعض الطعام أو الخبز، لكن كل المحلات أصبحت فارغة لم يعد هناك شيئاً يؤكل. الجوع بدأ يقتل الجميع هنا.
تفرقت العائلات… كل فرد من أفراد العائلة ذهب إلى مكان مختلف عن أمه وأبيه وأخيه وأخته. قد تسأل لماذا؟ سأجيبك أنّ المحتل لم يعد يبالي لأيّ شيء. أصبح يقصف البيت على كل ما فيه ويرتكب المجازر في حقّ أهله، كي لا يخرج أيّ أحد حيّاً من تحت الركام بعد القصف.
والأسوأ من هذا كله أنك لا تستطيع معرفة أحوال عائلتك، ولا تستطيع التواصل معها، ولست تدري هل أفرادها أحياء، أم أصبحوا شُهداء؟ نحن في انتظار انتهاء هذه الحرب أو بالأصحّ انتهاء المجازر التي ترتكب بحقنا حتى نكتشف ذلك.
وفي اتصال مع يحيى.ع. روى أن التهجير بدأ من الشمال نحو الوسط الجنوبي، متسائلاً كيف يسكت العالم عن تهجير ملايين الأشخاص من بيوتهم إلى العراء؟ لقد بات هناك تجمع كبير من السكان بلا ماء ولا طعام ولا مأوى.
وأضاف: "ليس أمامنا من مكان نهرب إليه إلّا جنوب غزة، وهو مكان غير آمن. لم يعد من مكان آمن في أيّ بقعة من غزة".
من الأخبار الوافدة من غزة أن يوم الأحد، ثاني أيام الحرب، قصف اليهود بيتاً كان فيه عرس، فانهار البيت على من فيه، وباتت العائلة وكل من كان في العرس تحت الأنقاض.
ثم أعاد اليهود قصف معبر رفح منعاً من إدخال مصر مواد غذائية لغزة، وهي (مصر) اشترطت عبور الأجانب الأميركيين من غزة مقابل مرور التموين.
وقال أحدهم: "لا مياه ولا طعام، ونواجه وضعاً خطيراً، وهناك ألف عائلة تحت الركام، بينما لم يبق لدينا من الخبز سوى ما يكفي ليومين فقط، لأنه لا وقود ولا كهرباء لتشغيل المطاحن".
ويتحدث آخر عن منزل آل الجملة الذي تدمّر بالكامل، وعن هديل أبو سعدة خطيبة محمد أبو عاصي التي استشهدت يوم عرسها هي وأخواتها الخمس وأخاهنّ ووالدتهنّ.
ومجزرة الفاخورة شمال قطاع غزة راح ضحيتها أكثر من 30 شهيداً، وعشرات الإصابات بعد استهداف الطيران الحربي منازل المواطنين بدون سابق انذار، معظمهم أطفال ونساء. هذا عدا عن استهداف المستشفيات والمدارس.
من جهتها، أعلنت الأونوروا أنه لا مكان آمناً في القطاع حتى في المواقع التابعة لها، أو المستشفيات، أو مدارس الوكالة التي يحتمي بها آلاف النازحين.
سيدة مصابة قالت: "كان هناك أملٌ صغير هذا ما أخبرني به الطبيب عن طفلي، ذهبتُ، وعدت فلم أجد لا طفلي، ولا الطبيب، ولا المستشفى".
وما يحزّ في النفس رحيل الشيماء أكرم صيدم، الأولى على فلسطين في التوجيهي ٢٠٢٣ بمعدل ٩٩،٦ في المئة، رحلت مع عائلتها تحت القصف الإسرائيلي ولحقت بقوافل الشهداء.
من الأخبار التي نقلها الغزاويون أنّ القطاع الصحي في غزة انهار بشكل تام، فقد نفدت الأدوية والمستلزمات الطبية، وكان مدير مستشفى الشفاء في غزة تحدث كيف تقام الإسعافات: "نجري العمليات بدون تخدير وفي الطرقات".
عائلة المصري ربما تلخّص ما يجري، ويقول أحد أبنائها: "لقد رحل معظم العائلة في القصف، وهم: الأستاذ محمود سليمان المصري، وزوجته: رانيا، وابنته آية وابنها، وابنه محمد، وبراء وأحمد وزوجته وابنته، ومنال المصري وابنتها وئام محفوظ المصري".
غيضٌ من فيض مما يجري في غزة، والروايات لا تحصى ولا تعدّ، والأيام كفيلة بإظهار هول المأساة.