لا يتفق المؤرخون دائماً على كيفية تقسيم الحقبات التاريخية. ثمّة اختلاف مثلاً بشأن ما إذا كانت العصور الوسطى قد انتهت مع النهضة الإيطالية في القرن الرابع عشر أم مع الرحلات الأوروبية الاستكشافية في القرن الخامس عشر أم مع الإصلاح في القرن السادس عشر على ما أوضحه أستاذ التاريخ في جامعة برينستون ديفيد بيل.
ويمتدّ التباين بشأن تقسيم الحقبات التاريخية إلى القرن الماضي. هل بدأت الحرب العالمية الثانية مع احتلال النازيين لبولونيا في أيلول 1939 أم مع الحرب الأهلية الإسبانية سنة 1936 أم بدأت سنة 1914 حيث جمع البعض الحربين العالميتين الأولى والثانية في "حرب الثلاثين عاماً الثانية"؟ هذه بعض الأمثلة التي سردها بيل في مجلة "فورين بوليسي" والتي تبيّن أنّ الفصل بين فترات تاريخية مختلفة ليس بديهياً بحسب بعض التصوّرات السائدة.
الحرب الباردة لم تنتهِ سنة 1991
في محاولة لفهم طبيعة الحرب الدائرة في أوكرانيا وعلاقتها بانتهاء الحرب الباردة، قدّم أستاذ التاريخ والعلاقات الدولية في الجامعة نفسها ستيفن كوتكين رؤيته الخاصة في مجلة "فورين أفيرز". هو يجادل لصالح فكرة أنّ الحرب الباردة لم تنتهِ بين سنتي 1989-1991. الخطأ الأساسي الذي وقع فيه الغرب هو المبالغة في تقدير أهمية الأحداث التي حصلت في تلك الفترة. مع سقوط الاتحاد السوفياتي، توحّدت ألمانيا من جديد وبدأت دول أوروبا الشرقية تنضمّ تدريجياً إلى المعسكر الغربي. هذه التحوّلات بقيت محدودة الأثر على الصعيد العالمي.
بدلاً من ذلك، يشير كوتكين إلى فترة أخرى شكّلت مفصلاً في القرن العشرين. بدأت تلك الفترة أواخر السبعينات وقد اتّسمت بالتالي: وصول مارغريت تاتشر ورونالد ريغان إلى الحكم في المملكة المتحدة (1979) والولايات المتحدة (1980) ممّا أطلق "ثورة" ونموّاً كبيراً في الفضاء الأنغلو-ساكسوني، وصول الإسلام السياسي إلى الحكم في إيران (1979)، وإطلاق الزعيم الصيني السابق دينغ شياو بينغ الإصلاحات الجذرية مع تبنّي اقتصاد السوق (1979) الأمر الذي وضع الصين أيضاً على طريق النموّ.
يغالط كوتكين فكرة التركيز على انهيار الاتحاد السوفياتي كمحوّل أساسيّ في العلاقات الدولية. فبعد هذا الحدث، بقيت الصين شيوعيّة كما بقيت شبه الجزيرة الكوريّة مقسّمة. الفارق أنّه بعدما كانت الصين الشريك الأصغر للاتحاد السوفياتي عقب الحرب العالمية الثانية، تحوّلت روسيا مع الوقت إلى الشريك الأصغر للصين. علاوة على ذلك، حتى روسيا لم تضعف بعد سنة 1991 أكثر ممّا ضعفت مثلاً بعد ثورة 1917.
من المسؤول؟
لفت كوتكين النظر إلى أنّه في وقت كان الغرب قد حسم انتصار نموذجه الدولي بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، كانت "الحضارات القديمة" لأوراسيا، أي الصين وروسيا وإيران، تعلن رفضها هذا النظام وتؤسّس للتعاون في ما بينها. ولم يعفِ كوتكينز الغرب من مسؤولية ما وصلت إليه الأمور في الصراع مع هذه القوى وخصوصاً مع الصين. في وقت يميل المراقبون لاتّهام بيل كلينتون بتشجيع الصين على دخول منظمة التجارة العالمية بشكل "ساذج"، يذهب الكاتب أبعد من ذلك لينتقد الرئيس الأسبق جيمي كارتر لأنّه أعطى الصين وضع "الدولة الأكثر تفضيلاً" على صعيد الرسوم الجمركية في تجارتها مع الولايات المتحدة. كما انتقد فرانكلين روزفلت الذي منح الصين مقعداً دائماً في مجلس الأمن. وفي التسعينات، حافظ الرئيس الصيني الأسبق جيانغ زمين على التوجه الاستراتيجي لبلاده نحو الولايات المتحدة، لكنّه في الوقت نفسه عقد شراكة مع روسيا ومجمّعها العسكريّ. سمح ذلك للصين بـ"أن تمتلك كعكتها وتأكلها أيضاً".
بحسب كوتكين، يرى كثر من الروس بلادهم على أنّها صاحبة حضارة متميّزة ورسالة خاصة للعالم. وستستمر روسيا بطموحاتها الجيوسياسية الدائمة حتى يتخذ حكّامها القرار الاستراتيجي بالتخلي عن مسعاهم "المستحيل" بأن تصبح بلادهم قوة معادلة للغرب والتركيز على التعاون معه والازدهار الداخلي. لكنّ نجاح الغرب في أوكرانيا ليس ضرورياً لمواجهة روسيا وحسب. هو ضروريّ لنجاح الاستراتيجية الأميركية في آسيا أيضاً كما كتب.
شذّت عن القاعدة؟
لم يكن كوتكين المراقب الوحيد الذي رأى أنّ الحرب الباردة لم تنتهِ فعلاً. الكاتب السياسيّ البريطانيّ غافين إسلر لفت النظر في صحيفة "ذا ناشونال" الإماراتية إلى أنّ الحروب الكبرى كانت تنتهي عادة بمؤتمرات دولية: حرب الثلاثين عاماً بمؤتمر وستفاليا، الحروب النابوليونية بمؤتمر فيينا، الحرب العالمية الأولى بمؤتمر فرساي، والحرب العالمية الثانية بيالطا وبوتسدام. لكنّ نهاية الحرب الباردة لم تنتهِ بأيّ مؤتمر. أسّس ذلك لزيادة في التوتّر بين أوروبا التي خشيت دوماً من طموحات بوتين الإمبريالية وروسيا التي خشيت من التطويق وفقاً لرأيه.
لكنّ تفكّك الاتحاد السوفياتيّ تحقّق من دون حرب ولذلك لم تبرز حاجة إلى عقد مؤتمر دوليّ، إضافة إلى أنّه حصل بشكل سريع وخلافاً للتوقعات. على سبيل المثال، دعا وزير الخارجية الأسبق هنري كيسنجر الولايات المتحدة في السبعينات إلى الاستعداد للتعايش مع الاتحاد السوفياتي لنحو قرن إضافيّ. من جهة أخرى، كان الحوار الذي أجرته الولايات المتحدة وأوروبا مع روسيا في كانون الثاني أشبه بهذا النوع من المؤتمرات ولو جاء متأخراً. يبدو أنّ الرئيس الروسيّ فلاديمير بوتين كان قد اتّخذ قراره مسبقاً بشأن الغزو.
خلاف بين المجتمعين الأمني والسياسي
اللافت أيضاً في السياق نفسه أنّ المجتمع الاستخباريّ الأميركيّ لم ينظر إلى تفكّك الاتحاد السوفياتيّ عبر عدسة نهاية الحرب الباردة على ما شرحه المسؤولان البارزان السابقان في وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية "سي آي أي" صونيا سونغييه وكريستوفر تيرنر. وكتبا في موقع "سايفر بريف" أنّ روسيا والصين واصلتا فرض التهديدات على القيم الليبيرالية الديموقراطية تحت ستار التواصل السياسي والاقتصادي. أمّا خارج هذا المجتمع، فساد "التفكير الرغبوي" المنفصل عن حسابات واضحة ودراسة للأكلاف البعيدة المدى. أدّى ذلك إلى انتشار شعور زائف بالأمن وبأنّه يمكن احتواء الحروب. ما حصل سنة 1991 هو مجرّد "تغيير في المظهر الخارجي" للحرب الباردة بحسب تحليلهما.
لكن، إذا لم تكن الحرب الباردة قد انتهت فعلاً سنة 1991 وهي لا تزال متواصلة إلى اليوم بأشكال أخرى، فمتى يمكن توقّع نهايتها؟ لا جواب سهلاً على السؤال. يفضّل كوتكين وبيل انتظار نهاية الحرب في أوكرانيا قبل الإجابة. حتى في ذلك الحين، قد لا يكون الجواب مضموناً. نهاية الحرب في أوكرانيا يمكن أن تعني نهاية الحرب الباردة. لكنّ نهاية الأخيرة ليست بالضرورة مقدّمة لسلام طويل. بحسب بيل، يمكن أن نعيش حالياً في "فترة ما قبل الحرب".