تعيش الإدارة الأميركية "أزمة سياسية خارجية" صعبة ودقيقة على إثر حرب غزّة، ويسير الرئيس الأميركي جو بايدن بين الألغام قبل أقل من عام من موعد الانتخابات الرئاسية، وذلك بسبب موقفه من الصراع ومواقفه الداعمة بشكل مُطلق لإسرائيل، وإن كان قد فرض الشروط وأسدى "نصائح" لا يُحبّذها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، كوجوب إدخال مساعدات اكثر إلى القطاع أو تحييد المدنيين عن الحرب.
هل فعلاً تبدّل موقف بايدن؟
يقف بايدن أمام العديد من الحسابات الانتخابية والسياسية الداخلية منها والخارجية، فعلى صعيد الاستحقاق الأول، لا يُريد بايدن خسارة المُسلمين والعرب الذين كانوا في صفّه في العام 2020، والذين يُشكّلون نسبةً لا بأس بها من المقترعين، ولأصواتهم قدرة على حسم بعض الولايات المتأرجحة. وفي الوقت نفسه، يعلم مدى تأثير اللوبي اليهودي في واشنطن، ولا يُريد إغضابه.
أما وعلى صعيد السياسة الداخلية، فإن تشقّقات باتت تظهر بشكل واضح داخل الإدارة الأميركية على إثر الموقف من الحرب، وإزاء التغاضي عن ممارسات نتنياهو لجهة قتل المدنيين واستمرار دعم إسرائيل، ويلقى بايدن انتقادات داخلية وأسئلة حول الهجمات الإسرائيلية العنيفة على القطاع والحصار المفروض على سكّانه والسياسات التهجيرية المُعتمدة من قبل نتنياهو ووزرائه.
وبالنسبة الى السياسات الخارجية، فإن الولايات المتحدة تفقد الكثير من مصداقيتها في العالم وعلى صعيد مؤسسات المجتمع الدولي، وباتت صورتها على الشكل التالي: بعدما كانت المُدافع الأول عن حق الشعب الأوكراني في تقرير مصيره ورفض العملية العسكرية الروسية، ناقضت نفسها في غزّة، ودعمت إسرائيل وعملياتها ضد إرادة الشعب الفلسطيني.
تدفع هذه الحسابات بايدن إلى الابتعاد عن المواقف المتطرّفة والداعمة بشكل مُطلق لإسرائيل، وإبقاء عين على حال الفلسطينيين. لا يعني ذلك تبدّل موقف الرئيس الأميركي من الصراع ولا التراجع عن دعم إسرائيل المفتوح، لكن بدا في مواقفه ومواقف وزرائه الأخيرة تركيز على وجوب تحييد المدنيين عن النار، السماح بدخول المزيد من المساعدات، ووجوب التوجّه نحو حل الدولتين. ولفت في السياق فرض عقوبات على مستوطنين مارسوا أعمال عنف على فلسطينيين في الضفة الغربية المحتلة.
ما هي الحسابات الرئاسية؟
وفي تفاصيل الحسابات الرئاسية، فإن الغضب العربي والمسلم في الولايات المتحدة قد يضر باحتمالات إعادة انتخاب بايدن في معظم الولايات المتأرجحة في العام 2024، والتي فاز بها في عام 2020، إذ كانت تلك المجموعات ديموقراطية إلى حد كبير، ومن المتوقع أن يجتمع زعماء أميركيون مسلمون من ميشيغان ومينيسوتا وأريزونا وويسكونسن وفلوريدا وجورجيا ونيفادا وبنسلفانيا في ديربورن بولاية ميشيغان لبدء حملة #AbandonBiden.
ولا توجد إحصائيات موثوقة حول عدد الناخبين المسجلين المسلمين والعرب، ولكن حتى التحولات الصغيرة يمكن أن تحدث فرقاً، يبلغ عدد السكان الأميركيين المسلمين، الذين يمكن أن يشملوا الأميركيين العرب والأميركيين السود والأميركيين الآسيويين، 3,45 مليون نسمة تقريباً، وفقاً لما ينقل موقع "أكسيوس" عن مركز "بيو" للأبحاث.
وفي تفاصيل الأرقام، فاز بايدن عام 2020 بفارق 154 ألف صوت في ولاية ميشيغان، وتشير التقديرات إلى أن عدد السكان العرب الأميركيين في الولاية يبلغ 278,000 نسمة على الأقل، وفاز بولاية أريزونا بفارق 10,500 صوت، ويقدّر عدد السكان العرب فيها بنحو 60 ألف نسمة، وفاز بايدن في جورجيا بفارق 11,800 صوتاً، ويبلغ عدد السكان العرب الأميركيين هناك ما لا يقل عن 57,000 نسمة، حسب الموقع نفسه.
ويقدر المعهد العربي الأميركي خلال استطلاعاته الخاصة أن 59 في المئة تقريباً من الناخبين العرب الأميركيين أيّدوا بايدن في عام 2020، لكنه يقول إن استطلاعاته تشير إلى أن هذه النسبة انخفضت بشكل كبير في الأسابيع الأخيرة، وفق ما ينقل موقع "أكسيوس".
وفي سياق المزيد من الأرقام حول رأي الأميركيين بطريقة تعاطي بايدن مع حرب غزّة، أظهر استطلاع للرأي أجرته شبكة "إن بي سي نيوز"، نقلته مجلة "فورين بوليسي"، أن 34 في المئة فقط من الناخبين المسجلين يوافقون على كيفية تعامل بايدن مع الحرب، ويشعر العديد من الناخبين الشباب على وجه الخصوص بالغضب، ويقول بعض الأمريكيين العرب والمسلمين لمنظمي استطلاعات الرأي إنهم لن يصوتوا لبايدن في عام 2024 بسبب موقفه.
وتقف إسرائيل خلف الغضب الأميركي من مقاربات بايدن، ويقول مقال "فورين بوليسي" إن لقد الأزمة الإنسانية في غزة والارتفاع الهائل في الوفيات والمعاناة بين السكان المدنيين في غزة أدوا إلى تقويض مصداقية الولايات المتحدة. وقد يعتمد نجاح أو فشل السياسة الأميركية على ما إذا كان بايدن قادراً على إعادة تشكيل الحملة العسكرية الإسرائيلية، وتخفيف صعوبة الوضع الإنساني، وإشراك إسرائيل والشركاء الآخرين في التوصل إلى خطة عملية لغزة ما بعد الحرب.
انقسامات داخل البيت الأبيض
سياسياً، يواجه بايدن ضغطاً من قبل سياسيين أميركيين، أمثال السيناتور بيرني ساندرز، يُريدون فرض شروط على المساعدات الأميركية السنوية البالغة 3,8 مليار دولار كإنهاء القصف واسع النطاق لغزة وتجميد بناء المستوطنات، والتباين الواضح داخل الأروقة السياسية الأميركية قد يؤثّر على طريقة الحكم من جهة، وعلى مصداقية الولايات المتحدة دولياً.
بدأت الانقسامات داخل الإدارة الأميركية تظهر إلى العلن على خلفية موقف الولايات المتحدة من حرب غزّة، وقد تترك هذه الانقسامات أثرها على منظومة الحُكم الأميركية، وتصاعدت في كوريدورات البيت الأبيض أصوات مناهضة لدعم إسرائيل المفتوح، ووفق ما تنقل صحيفة "واشنطن بوست"، فإن عدداً من السياسيين عقد اجتماعات مع مستشارين في الإدارة للسؤال عن أعداد القتلى المدنيين في غزّة والرؤى لما بعد الحرب.
وبحسب الصحيفة الأميركية، فقد قال المستشارون إن الإدارة "يجب أن تكون حريصة" على عدم انتقاد إسرائيل علناً، حتى تتمكن من التأثير على قادتها سراً، وفي حين كشف مسؤولون أميركيون أن واشنطن تضغط على تل أبيب لتقليل الخسائر في صفوف المدنيين، يُذكّر المقال بأن الرئيس الأميركي وكبار مساعديه يدعون إلى تطبيق حل الدولتين فور انتهاء الحرب.
وتذهب الصحيفة إلى أبعد من ذلك، لتقول إن هذه الاجتماعات تُسلّط الضوء على كيفية تعامل بايدن مع ما يمكن القول إنها "أكبر أزمة في السياسة الخارجية" خلال رئاسته، أدّت إلى "انقسام" البيت الأبيض المُنزعج من الحرب الدائرة أكثر من أي قضية أخرى في السنوات الثلاث الأولى لبايدن في منصبه، وفقًا للعديد من المساعدين والحلفاء داخل البيت الأبيض وخارجه.
وفي سياق الاعتراضات المتصاعدة داخل الإدارة الأميركية، دعا عدد متزايد من الديبلوماسيين الأميركيين ومسؤولي الدفاع وعمال الإغاثة إلى وقف إطلاق النار، بما في ذلك أكثر من 1000 موظف في الوكالة الأميركية للتنمية الدولية. وفي وزارة الخارجية، كانت هناك العديد من برقيات المعارضة من ديبلوماسيين يحثّون الإدارة على استخدام المزيد من النفوذ لوقف العنف، وقد توجت باستقالة المسؤول في وزارة الخارجية الأميركية جوش بول الذي قال إنه لا يستطيع دعم المزيد من المساعدات العسكرية الأميركية لإسرائيل، ووصف رد الإدارة الأميركية بأنه "رد فعل متهور".
طرح لافت يُصالح به العرب؟
رئيس معهد الشرق الأوسط في واشنطن الدكتور بول سالم يثشير إلى أن "بايدن ألزم نفسه بموقف حكومة نتنياهو من خلال زيارة إسرائيل، دعمه الواضح وموافقته على الهدف الرئسيي لإسرائيل وهو "القضاء على حماس"، ويفسّر الرئيس الأميركي المعركة على أنها حرب ضد الإرهاب كالحرب ضد داعش، لكن موقفه أدّى إلى رد فعل من اليسار في الحزب الديموقراطي والجيل الشبابي الأميركي، بينهم ناخبون أميركيون من أصل عربي أو مسلم، وسيكون لهؤلاء أثرهم على استطلاعات الرأي في سياق الانتخابات الرئاسية المنتظرة في واشنطن".
وفي حديث لـ"النهار"، يشرح سالم مواقف بايدن المتجدّدة، ويلفت إلى أن "بعد ما اتخذ الرئيس الأميركي موقفه، وبعد ظهور صور الدمار والقتل في غزّة، وبعدما أدّى هذا الواقع إلى ردّة فعل أميركية، بدأ بايدن يتحدث عن وجوب فرض هُدنة إنسانية وضرورة تفادي الضرر الكبير على المدنيين وإدخال المساعدات،لكن من الضروري التأكيد على أن بايدن لا زال على موقفه الداعم لإسرائيل وحربها".
أما بالنسبة لاحتمال تبدّل موقفه في الفترة المقبلة انطلاقاً من الحسابات الانتخابية، يقول سالم: "لا أعتقد أن بايدن في جو المُطالبة بوقف إطلاق نار نهائي في الوقت الحالي، ولكن قد يتّجه نحو هذا الخيار في الأسابيع المقبلة، ولهذا السبب يُصرّ الإسرائيليون على استكمال عملياتهم العسكرية، قبل أن يُصبح زخم المطالبات بوقف دائم لإطلاق النار أقوى، فالإسرائيليون يعلمون ألا وقت مفتوحاً ولهذا السبب عادت العمليات بوتيرة خطيرة".
وإلى جانب التشديد على حماية المدنيين وإيصال المساعدات وطرح وقف إطلاق النار، يقول سالم إن بايدن "قد يطرح إعادة إطلاق مفاوضات السلام بشكل واسع، وذلك بعد خمود الحرب في الأشهر المقبلة، محاولاً انهاض مشروع الدولتين، لأنّه يعلم أن وضعه الداخلي تراجع بسبب موقفه المؤيّد جدا لإسرائيل، ولأنّه يُريد تنظيف صورته واعادة استقطاب أميركيين من أصل عربي أو مسلم، ليظهر وكأنه طارح السلام ودولة للفلسطينيين".
وعن احتمال تقييد الإدارة الأميركية المساعدات، كما يطرح ساندرز، يستبعد سالم "توجّه إدارة بايدن أو الكونغرس إلى هذا الخيار، بل على العكس، فقد منحت واشنطن تل أبيب 14 مليار دولار إضافة للمساعدات الأساسية، ولا أعتقد أن بايدن سيقيّد رسمياً، وإذ يتحدّث مع الإسرائيليين حول الأمور الإنسانية، إلّا أنّه لن يتجرأ على تقييد المساعدات بشكل واضح لأسباب انتخابية، وهو وجود كتلة ناخبة كيبرة مؤيدة لإسرائيل، بينهم يهود".
إذاً، فإن بايدن أمام أزمة سياسية وديبلوماسية فعلية، وستحكم حساباته الانتخابية والسياسية الدولية طريقة مقارباته لقضية حرب غزّة، وسيكون مضطراً لإحداث التوازن بين دعم إسرائيل من جهة على اعتبار أن الولايات المتحدة حليف أساسي وحامي أمن إسرائيل، والالتزام بدعم حقوق الإنسان لجهة عدم استهداف المدنيين وتأمين دخول المساعدات لضمان تأييد المسلمين والعرب.