قصي الحسين
كنا نستقبل شمس تولوز، صبيحة يوم الخميس الواقع فيه 4/1/2024. نزلنا من عتمة الحافلة التي أقلتنا فجر ذلك اليوم من مونبلييه إلى تولوز. أضاءت لنا أشجار المدينة على جانبي الشارع، جميع غصونها وأوراقها وترابينها، المتطايرة المتعالية. كانت تحتفل بقدومنا إليها. هرعنا إلى أشعتها الدافئة. نقفز من الأرصفة إلى الساحات. ننقد البلاطات كما الحمام. كما اليمام. كما الطير. كنا على عجل نريد الهوينى، ونحن نهرع من محطة الحافلات، المؤاخية لمحطة القطار، إلى الفندق الصغير الذي ينزوي بين عمارتين متعاليتين. وضعنا حقائبنا فيه أمانة، حتى يحين موعد العودة إليه في الثانية بعيد الظهر.
وقفنا أمام بابه. كأننا أمام جميع أبواب تولوز التي شرعت لنا. التمسنا فورا الطريق إلى ساحة الكابيتول. كنا نتعثر بأنظارنا، لشدة ما نلتفت، ذات اليمين وذات الشمال. نريد أن نلتقط جميع الأرصفة. جميع الأبنية. جميع الساحات الصغيرة والكبيرة. جميع التماثيل. جميع المجسمات. جميع الزينات. جميع الأشرطة على أشجار الميلاد.
كانت أنظارنا تترامى. تلتهم ما يقع لها. وكنا بين الحين والآخر، نرقع عيون هواتفنا بأعيننا. نريد أن نأسر المدهشات من العمائر الضاحكة لنا.
كانت الطوبة الحمراء تطغى على عمائر تولوز التراثية القديمة. كانت حصوات البحر والنهر تفترش الأرصفة، ونحن نغز السير إلى ساحة الكابيتول، أعظم ساحة ترامت لأنظارنا من بعيد. كنا نخترق صفوف الزائرين، نريد أن نسبقهم بأنظارنا، إلى البديع. إلى التجانس. إلى التوريق. إلى التعشيق. إلى المكنف والمكفت، من مداميك عمارات المدينة تحت الشمس، صبيحة ذلك اليوم الذي وقع لنا بلا ميعاد، ليشملنا حظنا بعطفه. ليشملنا حظنا بمعطف تولوز الذي ارتديناه. نتقي لسعة. نتقي قرصة. كانت النسيمات التي هبت إلينا، تكاد تقرصنا، كعروسين، برّحهما الحب، حين التقينا الهوينى.
تحت شمس تولوز، كان المبتدأ في رحلة الثواني. في رحلة الثنايا. في رحلة الصحون والصواني. في رحلة الباحات والساحات. في رحلة الزوايا والتكايا والتعرجات والأقبية. كل باب وسيط في تولوز، لأبواب كثيرة. تتفتح الأبواب أمامنا، كما الأشرعة. كنا على ظهر المراكب المبحرة إلى الآماد البعيدة، ونحن نقف للحال، تحت قبو عجيب، من قباء الأسواق الكثيرة، في تولوز الحبيبة.
كان حمام المدينة يطير بين أيدينا. ينتقر في راحاتنا. ينقر أكبادنا. ينقر منا أناملنا. ثم يطير فوقنا، تحت الشمس. هو أيضا، نحن مطلبه. كنا نراه يطير إلى أبراج الكاتدرائيات الكثيرة. تعوّد أن يعشش فيها، كما المحبة. كما قرع جرس الساعة. كما دقته التي تقع للأفئدة.
كنا كما شلل زائري تولوز، نصنع نهر الغارون بأعيننا. سرنا إليه بهامات شدت إلى ساحة الكابيتول. كانت أقواس ظهورنا تقذف بنا إلى الأمام، كلما اندفعنا نأخذ الدروب الوسيعة. نأخذ الدروب اللينة. نسلك حلزونة المسرب، إلى الغارون، كمن كان يأخذ بيديه جوزتي ماء إلى شفتيه، يبل بهما وله المندهش. وله الدهشة. يعثر على الغارون المهيب، كنهر بطول أمبراطور لا يشبع من الأرض. يصنع من يديه جسرا للعابرين إلى التاريخ القديم. إلى التاريخ الوسيط. إلى التاريخ الحديث. حيث دور المشافي على ضفتيه. حيث أوتيل ديو. حيث برج الماء. حيث الجسور الغريقة، لا تزال تئن تحت مائه مع غرقى العبور، من شدة الحب. سقطوا من راحة الشمس، تحت سماء تولوز.
ما كان للشمس في تولوز أن تغيب عنا، حتى الساعات المتقدمة من الليل. كنا، كلما استرقنا الخطو إلى زقاقاتها، أرخت علينا بشالاتها. كانت شالات شمس تولوز لا تنحسر عنا، ونحن في عز منتصف تلك الليلة التي، سكنت بين الفؤاد وأعيننا. برحنا الشوق إلى أسواق المدينة القديمة. كنا نريد الظفر بها كلها، بين ثواني الساعة المستعجلة.
تحت شمس تولوز، كانت تتسع لنا تنهداتنا. كلما تنهدت لنا زاوية، أو تكية، أو متكأ دهري، أدارت لنا الشمس صحنها.
كانت المدينة والشمس ونهر الغارون وساحة الكابيتول ومحطة الحافلات ومحطة القطار، من الذكريات الحلوة التي حنينا لها ظهورنا. كان أدب المدينة أعظم من أدبنا. كان ليل المدينة أرقّ من سواد أعيننا. كان صحن الشمس أنصع من أكبادنا. وكانت لهفتنا على تولوز المدينة الغريقة بناسها، بغارونها، بساحة الكابيتول، وبزواياها وشوارعها، كلها خرجت وراءنا، ونحن ننعطف إلى باب الفندق، وقد طوينا تحت شمس تولوز أجمل سويعات عمرنا.