خطوة تاريخية أقدمت عليها جنوب أفريقيا برفعها دعوى أمام محكمة العدل الدولية ضد إسرائيل، بتهمة انتهاك اتفاقية منع جريمة إبادة الجنس البشري والمعاقبة عليها، التي وُقّعت في العام 1948، إثر محرقة اليهود خلال الحرب العالمية الثانية، بعد العملية العسكرية في غزّة، وكانت جلسة الاستماع الأولى يوم الخميس الفائت، واستتبعتها جلسة أخرى يوم الجمعة.
لا يتوقع العالم محاسبة حقيقية لإسرائيل على ممارساتها في غزّة، لأنّ العدالة الدولية أثبتت فشلها في العديد من المحطات، لا سيما في العراق وسوريا وأوكرانيا وغيرها، إلّا أن للخطوة رمزية كبيرة، تتمثّل في هُوية الدولة المُدّعية، أي جنوب أفريقيا، وهي لا تُعدّ في مصاف القوى العالمية، وهُوية المدّعى عليها، أي إسرائيل، التي لم تعتد على مبدأ المحاسبة يوماً.
تحمل الخطوة تبعات سياسية ليست بسيطة، وقد تحمل أيضاً أبعاداً غير ظاهرة؛ فمن المعلوم أن جنوب أفريقيا تتقرّب بشكل ملحوظ من المحور الصيني-الروسي، وقد استضافت قبل أسابيع قمّة "بريكس"، وهو المحور المواجه لمحور الولايات المتحدة وحلفائها، ضمن اصطفاف يراه بعض المراقبين خطوة في مشوار الألف ميل لتغيير النظام العالمي.
أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية نبيل خوري يرى في الدّعوى الجنوب أفريقية "ظهوراً للعالم المتعدّد الأقطاب، وصعوداً لدول الجنوب العالمي"، ويلحظ تحوّلاً في العلاقات الدولية وانتقالَ زمام الأمور وإدارة شؤون العالم من احتكار القوى العظمى المتعارف عليها، إلى الدول الصاعدة كجنوب أفريقيا، الهند، البرازيل وغيرها.
وفي حديث لـ"النهار"، يُشير إلى أن الدعوى تحمل رسائل، مفادها أن "الغرب والشمال لم يعودا المتحكّمين الوحيدين بالشؤون الدولية، بل ثمّة قوى جديدة تأخذ المبادرة وتعترض؛ وجنوب أفريقيا إحدى هذه القوى المستجدّة على الساحة، والتي تُعبّر عن سياسة خارجية مستقلّة، تتمتع بالمصداقيّة، بعدما تحرّرت من نظام الفصل العنصري، وتُريد إرساء عدالة دولية قائمة على معايير موحّدة".
إلى ذلك، بات من الواضح أن العالم يشهد تحوّلات ضخمة لجهة القيادة، وبعدما كان أحادي القطب بقيادة أميركية، بات يتّجه نحو النظام المتعدّد الأقطاب على إثر الصعود الصيني والروسي، وتطوّر القوى الإقليمية وتوسّع رقعة نفوذها، كتركيا وإيران، فضلاً عن حركة دولية لتشكيل جبهات ضد الغرب ومواجهته؛ وقمّة "بريكس" كانت خطوة في هذا الاتجاه، إلى جانب الحرب الأوكرانية.
يعتبر خوري أن الفعل الجنوب أفريقي بمثابة "خطوة نحو نظام عالمي جديد، ورسالة من القوى الصاعدة إلى القوى الدولية للمشاركة في القيادة العالمية، وتأكيد على التعددية القطبية من جهة، وعلى عدم التسامح مع الغرب في اعتماد ازدواجية المعايير من جهة أخرى. ومن الواضح أن معايير الغرب ليست نفسها في أوكرانيا وفلسطين".
أما عن احتمال أن تكون الصين أو روسيا خلف الخطوة الأفريقية، فيلفت إلى أن "العلاقات بين جنوب أفريقيا وهذه الدول تشهد تطوّراً، وقد عُقدت قمّة "بريكس" قبل فترة. لكن في الموضوع الفلسطيني، فإن المواقف الداعمة للشعب الفلسطيني خجولة، فلو أنّها تمّت بدفع صيني أو روسي، فلماذا لم ترفع هاتان الدولتان الدعوى أو تدعمانها؟".
إلى ذلك، فإن للخطوة تبعات سياسية على جنوب أفريقيا، لأنّها وضعت نفسها في مواجهة إسرائيل، "الطفل المدلّل" للغرب. ومن المعلوم أن العقل الإسرائيلي لا يُمكن أن يتقبّل أيّ مواجهة أو ضربة من دون الرّد عليها. وفي هذا السياق، فإن أشكال المواجهة قد تكون كثيرة، منها العزلة السياسية، الضغط الاقتصادي، وقف الاستثمارات، وقد يتدخّل اللوبي الإسرائيلي لتشكيل هذا الضغط". وفي هذا السياق، فإن علاقات جنوب أفريقيا ليست سيّئة مع الغرب، وبالتحديد الولايات المتحدة، ومواقفها ليست صدامية أو مستفزّة، ولا مصلحة لأحد بعداء يستجدّ بينها وبين الغرب.
على المقلب الآخر، فإنّ للدعوى تبعات سياسية ضخمة على إسرائيل أيضاً، انطلاقاً من أنها المرّة الأولى التي تمثل أمام محكمة العدل الدولية، الأمر الذي سيُسلّط الضوء أكثر على ممارساتها في غزّة، وسيُثير الرأي العالم العالمي الذي شهد تحولات كبيرة منذ السابع من أكتوبر، وبدأ يدعم الفلسطينيين ويُهاجم إسرائيل ويعتبرها دولة محتلّة.
اهتزّت مكانة إسرائيل الدولية بعد إطلاقها العملية ضد "حماس"، وقتلها 24 ألف فلسطينيّ في غزّة، وتدميرها القطاع بشكل كامل. واعتبر الرأي العام العالمي أن الرد غير متناسق مع هجوم "حماس"، فأطلقت حملات المقاطعة، ونظّمت التظاهرات؛ والدعوى الجنوب أفريقية ستحفّز الرأي العام العالمي على التحرّك أكثر والضغط على الحكومات الغربية.
خوري يعتبر أن إسرائيل "لا يُمكنها أن تتجاهل حجم الضغط الخارجي الحاصل، والدعوى الجنوب أفريقية تمثّل تأطير حملة الاحتجاج والغضب العالميين ضد إسرائيل. وبالتالي، فإن المستجد القانونيّ ووقوفها أمام احتمال محاسبتها سيُربكها، لكن في الآن عينه فإن إسرائيل ليست معزولة دولياً، وستُحاول إدارة الأزمة، ولن تقدّم التنازلات أو تعترف بإبادتها الجماعية وتوقفها".
لكن خوري يستطرد في هذا الشأن بأن "إسرائيل تُحاكم بقانون بُني على محرقة الهولوكوست، وبالتالي فهي تُدان بما كانت تُدين به يوماً، وممارسات إسرائيل تزيد من حجم الضغط عليها".
قراءة قانونية
أما في البعد القانوني، فيُشير أستاذ القانون الدولي في الجامعة اللبنانية والخبير السابق لدى المنظمات الدولية حسن جوني إلى أن ثلاث مراحل تنتظر مسار قضية جنوب أفريقيا بمواجهة إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية، ويقول إن المرحلة الأولى تجري حالياً، وقد استمعت المحكمة إلى طرفي النزاع القضائي.
وفي حديث لـ"النهار"، يتحدّث جوني عن الإجراءات الاحترازية التي قد تتخذها المحكمة في المرحلة الأولى، وهي الطلب إلى إسرائيل وقف الجرائم ضد الجنس البشري، لأن القضية لا يُمكنها انتظار المسار القضائي الكامل، الذي سيأخذ سنوات، ومن المتوقع أن يصدر القرار في غضون أسبوع.
ويُضيف في هذا السياق: "قرار طلب وقف جرائم الإبادة ضد الجنس البشري لا علاقة له بالحكم الأخير. وقد تقول إسرائيل إنها لا ترتكب هذا النوع من الجرائم، وبالتالي لا تتوقف عن ممارساتها. عندها، قد تلجأ جنوب أفريقيا إلى مجلس الأمن الذي قد يجتمع ويطلب وقف هذه الجرائم، وقد تلجأ إحدى الدول إلى حق النقض الفيتو".
ثم يتحدّث جوني عن المرحلة الثانية من المسار القضائي، ويلفت إلى أنها لتحديد ما إذا كانت المحكمة صاحبة اختصاص للنظر في هذه القضية أم لا، وبدء تقرير الحكم. وفي حال كانت صاحبة الاختصاص، فالمحكمة ستتابع عملها الذي سيأخذ وقتاً طويلاً قد يمتدّ لسنوات. أما في حال لم تكن، فسيتوقّف المسار القضائي.
ويُضيف: "ثمّة معايير ثلاثة لتحديد ما إذا كانت المحكمة صاحبة اختصاص أم لا: المعيار الأول أن يكون الطرفان موافقين على هذه القضية، إلّا أن إسرائيل ليست مواقفة. أما المعيار الثاني، فهو إيجاد موافقة مسبقة (على المحكمة)، إلّا أن إسرائيل انسحبت من هذه الموافقة. والمعيار الثالث هو صلاحية المحكمة لتفسير وتطبيق وتنفيذ اتفاقية منع ارتكاب إبادة الجنس البشري، وهذا المعيار صالح وستعتمده المحكمة".
وبحسب جوني، فإن جنوب أفريقيا تُريد محاسبة إسرائيل على ارتكاب جرائم ضد الجنس البشري، وكل من يتآمر مع إسرائيل أو يساعدها أو يحرّضها أو يشترك معها في ممارساتها، إلّا أن إثبات ارتكاب هذه الجرائم صعب جداً إن لم يكن مستحيلاً، وفق ما يقول رئيس لجنة الصياغة في المحكمة الجنائية الدولية شريف بسيوني.
أما بالنسبة إلى المرحلة الثالثة، فإن القرار يصدر - بحسب جوني - ويكون عبارة عن الإقرار بتعويضات للمتضرّرين من جرائم إبادة الجنس البشري في حال تمّ التأكّد منها، وبتعويضات لجنوب أفريقيا التي تتحمّل تكاليف الدعوى. وعلى إسرائيل التقيّد بالقرار. أمّا في حال عدم مثولها، فيُمكن لجنوب أفريقيا التوجّه نحو مجلس الأمن والطلب منه الاجتماع، ويكون لمجلس الأمن أن يجتمع في حال أراد ويتّخذ القرار، وقد يكون حقّ النقض (الفيتو) حاضراً.
وفي ختام حديثه، يذكر جوني الدّعوى المقدّمة من جنوب أفريقيا وخمس دول أخرى ضد مسؤولي إسرائيل أمام المحكمة الجنائية الدولية، وهي مختصة بمحاكمة الأفراد، في أربع تهم هي جرائم الحرب، جرائم ضد الإنسانية، إبادة الجنس البشري، والعدوان. وسيحرّك المدعي العام القضية ويقدّمها إلى الهيئة التمهيدية، وذلك نظراً إلى دور جنوب أفريقيا وتأثيرها على الدول الأفريقية الأعضاء في المحكمة وإمكانية انسحابهم من نظام المحكمة.
إذن، فإن للخطوة أبعاداً سياسية ورمزية أكثر ممّا لها نتائج فعليّة، وقد تكون مقدّمة لخطوات أخرى تتخذها دول العالم الثاني أو حتى الثالث في قضايا مختلفة؛ وذلك في ظل إعادة رسم الخريطة العالمية وإعادة تشكيل المحاور والتحالفات وتوزيع الثروات وتوسيع رقع النفوذ، والمنافسة الشرسة الموجودة بين المحورين: الغرب من جهة، والصين وحلفائها من جهة أخرى.