جعل اليمين واليمين المتطرف الأوروبي من رفض المهاجرين الركيزة الأساسية لخطابهما، لكنهما باتا يضطران لدى وصولهما إلى السلطة، إلى مراجعة مواقفهما في مواجهة نقص في اليد العاملة ناجم عن تراجع معدلات الولادات.
في العام 2017، كانت جورجيا ميلوني (يمين متطرف) نائبة في صفوف المعارضة ترى في وصول "500 ألف مهاجر في ثلاث سنوات إلى إيطاليا... اجتياحًا منظمًا" و"استبدالًا اثنيًا".
الصيف الماضي، أعلنت الحكومة التي ترأسها ميلوني موافقتها على مرسوم ينص على "دخول" 425 ألف عامل أجنبي إلى أراضيها في الفترة الممتدة بين 2023 و2025.
لاحظت صحيفة "لا ستامبا" اليومية المحافظة في ذلك "خطوة إلى الوراء" مذهلة بررتها الحكومة بمعطيات "الواقع الإنتاجي" في البلد الذي ينقصه ما يصل إلى 833 ألف عامل خصوصًا في قطاعَي صيد الأسماك والزراعة.
وتتناقض كذلك الخطابات والأفعال في هنغاريا حيث يكثّف رئيس الوزراء القومي فيكتور أوربان خطبه اللاذعة المناهضة للهجرة باسم الدفاع عن أوروبا المسيحية.
وقال في تشرين الأول "أولئك الذين يدعمون الهجرة يدعمون الإرهاب أيضًا".
مع ذلك، تكثّف بودابست إصدار تأشيرات العمل للتعويض عن نقص اليد العاملة الهنغارية، في حين أنها ترفض استقبال لاجئين والمشاركة في "آلية التضامن الأوروبي الطوعية" التي تنظم نقل طالبي اللجوء بين دول الاتحاد الأوروبي.
في السنوات الأربع الأخيرة، تضاعف عدد العمال الأجانب في هنغاريا في قطاعات البناء والمطاعم ومصانع البطاريات الكهربائية، حيث ارتفع من 35 ألفًا في بداية العام 2019 إلى أكثر من 73 ألفًا في نهاية العام 2023، ومعظمهم من آسيا بحسب الأرقام الرسمية.
في آب، قال مدير مكتب رئيس الوزراء الهنغاري غيرغيلي غولياس لتفسير هذا الارتفاع "إنه نظام مستقل تمامًا عن نظام الهجرة، إنهم (العمّال) لا يبقون معنا على المدى الطويل".
- 1,5 طفل لكل امرأة -
على غرار إيطاليا (1,25 طفل لكل امرأة في العام 2021)، تعاني هنغاريا (1,59 طفل لكل امرأة في 2021) من عقود من انخفاض معدّلات الولادة وزيادة متوسط العمر المتوقّع، ما يساهم في شيخوخة سكانها ويؤثر على اقتصادها على المدى القصير.
الوضع مماثل تقريبًا في كل دول الاتحاد الأوروبي حيث يبلغ المتوسط لكل امرأة 1,5 طفل ومتوسط العمر المتوقع أكثر من 80 عامًا، بحسب وكالة الإحصاء الأوروبية "يوروستات".
ومن المحتمل أن تصل الحاجة إلى العمّال الأجانب إلى 43,1 مليون عامل في العام 2050 في الاتحاد الأوروبي، بحسب دراسة استطلاعية أجراها "مركز التنمية العالمية" الأميركي ارتكزت إلى فرضية عدم الاستغناء عن الوظائف بفعل التقدّم التقني.
في حين سجلت الوكالة الأوروبية لمراقبة الحدود والسواحل "فرونتكس" 380 ألف دخول غير قانوني في العام 2023 وهي ذروة منذ العام 2016، يواصل الاتحاد الأوروبي التأكيد على أنه لا يريد استقبال هؤلاء المهاجرين الآتين معظمهم من إفريقيا والشرق الأوسط وأفغانستان.
وصوّتت فرنسا التي تسجل أعلى معدلات للولادات في أوروبا رغم تراجع معدّل الخصوبة إلى 1,68 طفل لكل امرأة في العام 2023، في نهاية كانون الأول/ديسمبر على قانون للهجرة مثير للجدل وصفه اليمين المتطرف بأنه "نصر أيديولوجي".
في سياق جدل يميني حول الموضوع، دافع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عن نص وصفه بأنه "درع واقٍ" ضد الهجرة غير القانونية.
من جهته، ندد رئيس جمعية أصحاب الأعمال الفرنسيين باتريك مارتان بـ"التركيز المفرط" على المهاجرين غير القانونيين و"تجاهل" الجانب الاقتصادي في حين يُتوقّع أن تبلغ الاحتياجات بحلول العام 2050 "3,9 ملايين موظف أجنبي" في فرنسا.
- "نفاق أساسي" -
في ألمانيا التي قوبلت بانتقادات داخل الاتحاد الأوروبي بعدما استقبلت في العام 2015 أكثر من 800 ألف لاجئ خلال الأزمة السورية، يتوقع أن يصل عدد الموظفين الذين سيبلغون سنّ التقاعد في العام 2036 إلى 12,9 مليونا، بحسب مكتب الإحصاء الألماني "ديستاتيس"، أي ما يشكّل 30% من العمالة الناشطة.
وقال المستشار الألماني أولاف شولتس في تشرين الأول "سنحتاج إلى مزيد من المهاجرين"، معربًا عن أمله أن "يعيش ويندمج" العديد من "العقول الموهوبة والعمّال المؤهلين" الأجانب ومعلنًا في مقابلة مع صحيفة "در شبيغل" أنه يريد "الحدّ من الهجرة غير النظامية" في ألمانيا بسبب وصول أعداد كبيرة.
ويشير مدير الأبحاث في المعهد الوطني الفرنسي للدراسات الديموغرافية باتريك سيمون إلى خطاب "متناقض" حول الهجرة يصل إلى حد القول "نريد إغلاق الهجرة ولكننا نريد اختيار مهاجرينا".
في المملكة المتحدة، كان موضوع الهجرة محرّكًا للخروج من الاتحاد الأوروبي وهو ما تم التصويت عليه في العام 2016. بعد ذلك بستة أعوام، سجّلت بريطانيا التي تعاني تراجعًا في الخصوبة (1,5 طفل لكل امرأة) وصول 606 آلاف مهاجر من دول خارج الاتحاد الأوروبي فيما غادر العديد من المواطنين الأوروبيين المملكة المتحدة.
ويقول سيمون "يجسّد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي الطبيعة المتناقضة والظاهرة للخطاب المناهض للهجرة"، مدينًا ما يصفه بأنه "نفاق أساسي".
ويعتبر الخبير في الديموغرافيا فرانسوا إيران "حين يوقف التدفق بقرار رسمي، فإن الأشخاص الذين لا يدخلون من الباب سيدخلون من النافذة... إن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، في مجالات البحث الاقتصادي أو الهجرة، هي تجربة هائلة يجب أن تكون درسًا لبقية أوروبا".