بعدما كانت في الماضي بلاد المافيا والعنف السياسي التي كتب تاريخها بأحرف من الدم، باتت إيطاليا اليوم من أكثر الدول أمانا في أوروبا، مسجلة مستوى متدنيا من جرائم القتل بالمقارنة بالدول المجاورة الكبرى، بدءا بفرنسا.
أوقعت المافيا منذ منتصف القرن التاسع عشر وحتى تسعينات القرن العشرين آلاف القتلى من صغار العملاء وكبار القادة، حاصدة ضحايا كذلك من الشرطة والقضاة والكهنة والشهود والتجار الرافضين الرضوخ للابتزاز.
وتضاف هذه الحصيلة المروعة إلى حصيلة "سنوات الرصاص" بين نهاية الستينات ومطلع الثمانينات، حين أحلّت مجموعات مسلحة من أقصى اليسار كما اليمين الرعب بهدف بث الفوضى وإضعاف الدولة وصولا في نهاية المطاف إلى إحلال نظام جديد.
وإن كان اغتيال الألوية الحمراء رئيس الحكومة السابق ألدو مورو عام 1978 يبقى في الذاكرة الجماعية كالجريمة الرمز لهذه الحقبة، فإن "الإرهاب الأسود" الذي مارسه الفاشيون الجدد هو الذي تسبب بسقوط العدد الأكبر من القتلى من أصل 400 ضحية سقطوا خلال تلك الحقبة، وبينهم مدنيون وشرطيون وقضاة.
لكن مع انتهاء الإرهاب السياسي وتحويل المافيات أنشطتها إلى الجرائم المالية، سجل تراجع حاد في عدد الجرائم المتعمدة.
- أقل من الضحايا الرجال -
وفي العام 2023، شهدت إيطاليا 330 جريمة قتل، وهو عدد أدنى بثلاث مرات منه في فرنسا (1010 جرائم)، وفق الأرقام الرسمية الصادرة مؤخرا عن البلدين.
ولفتت عالمة الاجتماع رافايلا سيتي من جامعة بولونيا إلى أن "جرائم القتل تراجعت بحدة في السنوات الـ25 الأخيرة وخصوصا جرائم قتل الرجال".
ففي 1990، أحصيت 34 جريمة قتل لكل مليون نسمة من السكان في إيطاليا، في مقابل 24 في فرنسا، وفق مكتب الأمم المتحدة لمكافحة المخدرات والجريمة. أما في 2023، فكان عددهم أدنى بست مرات، فيما تراجع بمعدل 1,6 مرة فقط خلال الفترة ذاتها في فرنسا.
وأوضح جانلوكا أريغي المحامي الجنائي وكاتب الروايات البوليسية أن "مجموعات المافيا بدلت أسلوب عملها بشكل جذري ... وهي اليوم تستثمر في العقارات والأنشطة التجارية" لغسل أموال المافيات بدون سفك دماء، ما قد يضر بمصالحها.
وتنسب اليوم 10% فقط من جرائم القتل التي ترتكب كل سنة في إيطاليا إلى المافيات.
وتعتبر إيطاليا من الدول الأوروبية التي تسجل أدنى عدد من جرائم القتل نسبة إلى عدد السكان، وفق الإحصاءات المتوسطة الصادرة عن مكتب الأمم المتحدة لمكافحة المخدرات والجريمة لفترة 2021/2022، والتي أفادت عن 5,5 جريمة لكل مليون نسمة في هذا البلد، في مقابل 7 في إسبانيا و8 في ألمانيا و10 في المملكة المتحدة و11 في فرنسا.
ومن أصل جميع البلدان، وحدهما النروج وسويسرا تظهران نسبة جرائم قتل مساوية لإيطاليا أو أدنى منها، فيما النسبة في لاتفيا أعلى بـ6,5 مرات.
وينطبق الفارق بين إيطاليا وفرنسا أيضا على جرائم الضرب والجروح المتعمدة (65 ألفا مقابل 384 ألفا) وعلى محاولات القتل (1018 مقابل 4055) وفق وزارتي الداخلية في البلدين.
- مجتمع من "المراعاة" -
ويبقى تحليل العنف في مختلف البلدان أمرا غير دقيق، ويشير جانلوكا أريغي إلى جملة من العوامل.
وبالرغم من تسجيل إيطاليا نسبة فقر أعلى بكثير من الدول المجاورة المماثلة لها في الاتحاد الأوروبي، إلا أن ذلك ليس له تأثير حاسم على الشعور بالرفاه الاجتماعي، المختلف عن مفهوم الرفاه الاقتصادي الأكثر موضوعية منه. وأوضح أريغي أن "المراعاة" بين الأشخاص يمكن أن تساهم في التعويض عن صعوبات العيش.
وقال لوكالة فرانس برس إنه "كلما ازدادت العلاقات الخلافية ضمن مجموعة من البشر، سجل ميل لازدياد جرائم القتل التي يرتكبها أشخاص يعبرون عن ردود فعل غاضبة على الخصومات".
ورأى ستيفانو ديلفيني مدير التحليلات الجنائية في قسم الأمن العام أن "مجتمعنا أقل عنفا، والنسيج الاجتماعي فيه أقوى، وذلك على الأرجح بفعل القيم الاجتماعية الشديدة الحضور والتي تخفف من وطأة المصاعب".
وخارطة جرائم القتل تطابق بصورة عامة الخارطة السوسيولوجية، فتكثر في مناطق جنوب إيطاليا، وهي الأكثر فقرا في البلد.
وفي حين ظهر الرابط بين استهلاك الكحول (و/أو تعاطي المخدرات) والقتل في دول مثل فرنسا والمملكة المتحدة، فإن إيطاليا لا تملك أداة لقياس هذا العامل.
إلا أن منظمة الصحة العالمية تشير إلى أن استهلاك الكحول في إيطاليا هو الأدنى بين دول الاتحاد الأوروبي، وأقل بالثلث مما هو في فرنسا.
أما بالنسبة إلى جرائم قتل النساء المحتسبة ضمن العدد الإجمالي لجرائم القتل، فأحصت إيطاليا 97 من هذه الجرائم عام 2023. وعلى ضوء التراجع الكبير في عدد القتلى الرجال، فإن جرائم قتل النساء لا تزال رغم تراجعها تمثل ثلث جرائم القتل، في مقابل حوالى جريمة من أصل عشرة في فرنسا.