ميخائيل سيرغيفيتش غورباتشوف. "غوربي الغربيّ الطراز". آخر زعيم للاتحاد السوفياتي وآخر زعيم من حقبة الحرب الباردة، وحامل قضيّة "البيريسترويكا" التي غيّرت وجه الشرق الشيوعيّ، تُوفي أمس بعد سلسلة تغييرات دراماتيكيّة ارتبط اسمه بها وإطلاقه إصلاحات سياسيّة واقتصاديّة هدفت إلى تحديث الاتحاد السوفياتيّ الذي كان يعاني أزمات حادّة.
ليل 21 كانون الأول 1991، استُهلّت نشرة الأخبار في التلفزيون الروسيّ بجملة: "الاتحاد السوفياتيّ لم يعد موجوداً بعد الآن". بعد ذلك بخمسة أيّام، جفّ القلم الرئاسيّ السوفياتيّ الذي وقّع به غورباتشوف أخطر القرارات في النصف الثاني من القرن العشرين مع آخر لحظة للزعيم في السلطة، خلال توقيع قرار نقل السيطرة على الأسلحة النوويّة إلى رئيس روسيا الاتّحاديّة بوريس يلتسين. وأُنزل العلم الأحمر عن الكرملين.
لم ينتظر يلتسين انتهاء غورباتشوف مع جمع أغراضه في الكرملين. فوجئ الزعيم السوفياتيّ لدى دخوله مكتبه بخليفته جالساً في معقده. أُزيلت اللافتة التي كانت تُشير إلى أنّ الطبقة الثالثة من الكرملين هي مكتب غورباتشوف وأُبدلت بأخرى ليلتسين، وزُرعت الأعلام الروسيّة في الأرجاء.
وعندما غادر الرئيس الروسيّ الأول والوحيد الذي استقال طوعاً عوض أن يقضي في مكتبه أو يُخلع، وخرج من مكتب مستشاره وتمشّى، تحلّق حوله مواطنون في ساحة الكرملين. تلك الليلة، نشرت "فرانس برس" صورة جمعته بسيّدة موسكوبيّة مسنّة أسندت يدها على صدره بينما يربّت على ذراعها في لحظة وداعيّة. "إنّني منهك"، قال للجمع، "ولا بدّ من فرصة بين النهاية والبداية لمراحل الحياة".
البابا يوحنا بولس الثاني وغورباتشوف خلال اجتماع في الفاتيكان (1 ك1 1989 - أ ف ب)
منذ وصوله إلى منصب الأمين العام للحزب الشيوعي في آذار 1985 حتى استقالته في كانون الأول 1991، أدخل غورباتشوف الاتحاد السوفياتيّ وأوروبا الشرقيّة في دوّامة إصلاحات، انطلقت مع سياسة "البيريسترويكا" (إعادة البناء) و"الغلاسنوست" (الشفافية)، هو المولود من عائلة فلّاحين في بريغولنوي في القوقاز، والذي، عند اختياره زعيماً للاتحاد، قال لزوجته: "لا يمكننا الاستمرار في العيش على هذا النحو".
"عقيدة جديدة"
في عام 1985، بدا الاتحاد السوفياتيّ قوة عظمى آخذة في الانهيار، غير أنّ السكرتير العام الجديد للحزب الشيوعيّ ميخائيل غورباتشوف أراد تحديث النظام. أطلق برنامج "البيريسترويكا" الإصلاحيّ الذي هدف إلى تحرير الاقتصاد داخل النظام الشيوعيّ. وفيما ترك جدار برلين يتهاوى، سمح غورباتشوف بتأسيس المشاريع والأعمال الصغيرة وأطلق سراح المنشقّين وأباح انتقاد النظام.
غورباتشوف ورئيس السلطة الفلسطينية ياسر عرفات في رام الله (2 آذار 2000 - أ ف ب)
"أعطى غورباتشوف الأمر لقوّاته كي تبقى داخل الثكنات"، قال السفير السابق للاتحاد السوفياتيّ في ألمانيا الشرقيّة فلاديسلاف تيريكوف لوكالة "فرانس برس" عام 2011، "لذا بقيت قواتنا في ثكناتها... أحضر غورباتشوف عقيدة جديدة، فقد كان يؤمن بأنّ للشعوب حقّ تقرير مصيرها".
لم يكن تفكّك الاتّحاد هدف غورباتشوف، لكنّه ارتبط به. أنهى ليل 25 كانون الأول 1991 تجربة استمرّت سبعة عقود، وُلدت من المثالية والطوباويّة التي أسهمت في جزء من أكثر المعاناة الإنسانيّة دمويّة في القرن.
تخطّت الخطوات باتّجاه الحرّية الدول التابعة للاتحاد السوفياتيّ حتّى اخترقته. ثارت القوقاز ضدّ روسيا وتبعتها دول البلطيق، قبل أن تُعلن ليتوانيا استقلالها ويتعاظم الخطر على الاتحاد السوفياتيّ، وتلجأ موسكو في كانون الثاني 1991 إلى إطلاق النار على المتظاهرين.
غورباتشوف خلال إلقاء كلمة في الجلسة الافتتاحية لمؤتمر الشيوعيّين الروس في الكرملين (19 حزيران 1990 - أ ف ب)
في الذكرى العاشرة لانهيار النهائيّ للاتحاد، استرجع رئيس وزراء ليتوانيا أندريوس كوبيليوس الحدث الدمويّ. "دفاعنا الوحيد كان مواطنينا... كانوا قلقين حيال استقلالنا وعلى استعداد للدفاع عن مبانينا الرئيسيّة كافّة"، قال كوبيليوس، "مئات الآلاف تجمّعوا حول برج التلفزيون من دون خوف وقُتل منهم أربعة عشر شخصاً".
قُيّض للانقلاب الفشل بعد بضعة أيام، ولم ينجح سوى في ضرب الاستقرار. خلال الأشهر التي تلت، بدأت جمهوريّات أخرى تُطالب باستقلالها، وفي كانون الأول، أعلنت روسيا وأوكرانيا وبيلاروسيا نهاية الاتحاد السوفياتيّ، وبعد أيام استقال غورباتشوف.
أزمات مفصليّة
واجه غورباتشوف أزمات مفصليّة، مثل كارثة تشرنوبيل (1986) وحركات انفصالية في أرجاء الاتحاد السوفياتيّ قمعها جزئيّاً. وأصابت السنوات التي تلت تفكّك الاتحاد الروس بصدمة عزّزها الفقر والفوضى السياسيّة والحرب الدامية في الشيشان. ويرى قسم من الروس أنّه كان المسؤول في النهاية عن خسارة روسيا وضعها كقوة عالميّة عظمى.
وقبل عامين من تفكّك الاتحاد السوفياتيّ وسقوط النظام الشيوعيّ، دعا مؤسس الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة آية الله روح الله الخميني غورباتشوف إلى دراسة الإسلام والتعلّم منه، في رسالة تبقى الوحيدة التي أرسلها الإمام الراحل لزعيم أجنبيّ.
غورباتشوف والملكة إليزابيث الثانية في قلعة وندسور، نهاية زيارته الرسمية إلى بريطانيا العظمى (7 نيسان 1989 - أ ف ب)
وبعد محاولة فاشلة للعودة إلى السياسة في تسعينيات القرن الماضي، أمضى غورباتشوف القسم الأكبر من العقدَين الماضيَين على هامش الحياة السياسية، ودعا الكرملين والبيت الأبيض مراراً إلى إصلاح العلاقات.
وكان أحد الداعمين الرئيسيّين لصحيفة "نوفايا غازيتا" المستقلّة الرئيسيّة التي اضطرّت في آذار إلى تعليق صدورها في خضمّ حملة قمع لمنتقدي الغزو الروسيّ لأوكرانيا. وقبل وفاته، لم يُعرب الزعيم الحائز جائزة نوبل للسلام عام 1990 "لإنهائه الحرب الباردة سلميّاً" عن موقف علنيّ من الغزو الذي يأخذ عليه الغرب أنّه "مؤشّر لمحاولة إحياء الإمبراطوريّة الروسيّة".