حسين عبدالحسين*
"لم يكن لبنان يوماً في المرتبة الأولى ولا حتى الثانية في الأهمية بالنسبة للأمن القومي الأميركي، باستثناء في مناسبات نادرة"، يقول سفير الولايات المتحدة الأسبق في لبنان دايفد هيل في كتابه الصادر حديثاً بعنوان "الديبلوماسية الأميركية تجاه لبنان: دروس في السياسة الخارجية والشرق الأوسط". ويصف هيل نصّه بالقول إن "الكتاب ليس تضرّعاً للمزيد من التدخل في الشأن اللبناني، بل هو دعوة لفهم لبنان، وللتخفيف من حدة التناقضات في السياسة الأميركية تجاهه، والتي تترواح ما بين أقصى التدخّل و وكامل الإهمال".
هيل يستعرض تاريخ تعاطي واشنطن بالشأن اللبناني، فيقول إن باكورته كان ضغطاً مارسته على الزعيم الفرنسي شارل ديغول، الذي كان معارضاً لإعطاء لبنان استقلاله، فأجبرته على قبول ذلك. لكن أميركا غابت بعد ذلك عن الشأن اللبناني، ولم تعد إليه إلا من باب الحرب الباردة مع إنزالها قوات المارينز الأميركية في العام 1958، لا لمنع اندلاع الحرب الأهلية وضمان انتقال السلطة فحسب، إنما لتأكيد عدم تدخّل السوفيات في خضم الحرب الباردة بين الجبارين.
ثم كانت محاولة واشنطن لاستمالة زعيم مصر جمال عبدالناصر، وهو ما دفعها إلى السماح بسيطرته على لبنان. ويوم كان في ذروة سطوته، لم يرَ عبدالناصر حاجة لزعزعة استقرار لبنان، لكن مع الوهن الذي أصابه بعد هزيمة 1967 أمام إسرائيل، تسابق كلّ من حافظ الأسد وياسر عرفات للسيطرة على لبنان المزدهر. هنا، فضّل وزير الخارجية السابق هنري كيسنجر الأسد على عرفات، وكان هذا أساس الضوء الأخضر الأميركي لدخول قوات الأسد إلى لبنان.
لكن السياسة الأميركية أفضت إلى تدهور الأمور بشكل أجبر إسرائيل على الاجتياح لطرد عرفات، وبعد ذلك تدخل المارينز لضمان انتقال السلطة مرة ثانية وحفظ السلام. لكنّه في هذه المرة ظهر لاعب جديد هو إيران التي أرادت تصفية حسابات مع أميركا لدعمها الرئيس العراقي صدام حسين في حربه ضدها، فبقي لبنان ساحة تصفية حسابات، وتكبّد الأميركيون خسائر بالأرواح، وخرجوا من لبنان، وأخرجوه من حساباتهم بسبب انعدام أهمّيته.
وفي زمن جورج بوش الأب، كافأت واشنطن الأسد لمشاركته في الحرب ضد العراق بالسماح له بإنهاء الحرب الأهلية في لبنان، بشرط انسحاب قواته في غضون سنتين من توقيع اتفاق الطائف. لكن خروج بوش من الحكم شتت انتباه أميركا عن الموضوع، فصار الوجود السوري احتلالاً قائماً، وآثر كلينتون عدم تغيير الوضع اللبناني بسبب تبنيه سياسة "سوريا أولاً"، وهي سياسة كانت تتمحور حول سعي أميركا للتوصل لسلام بين السوريين والإسرائيليين.
لكن الاحتلال السوري تحول إلى مشكلة دائمة مع رئاسة بشار الأسد وسياسة أميركا القاضية بنشر الديموقراطية، فعاد اهتمامها بلبنان. هنا، يرتكب هيل خطأ الاعتقاد بأن نهاية هذا التدخّل الأميركي كان حرب 2006 التي أشعلها حزب الله مع إسرائيل، فأضعف بذلك تحالف 14 آذار. على أنّ الأصح، حسب رأي كاتب هذه السطور، جاء مع التغيير الذي طرأ على ولاية بوش الثانية، إذ تخلّى عن فريق نشر الديموقراطية الذي كان يقوده نائبه ديك تشيني واستبدله بفريق الواقعيين بقيادة وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس، التي تخلّت عن سياسة عزل الأسد، ودعت ممثله إلى مؤتمر أنابوليس للسلام، ووافقت على تسليم لبنان لـ"حزب الله" بعد "غزوة 8 أيار" واتفاقية الدوحة.
ومن طرائف ما يتذكّره هيل أنه أثناء عمله سفيراً في لبنان، اتفق رئيس الحكومة السابق سعد الحريري والنائب سليمان فرنجية على انتخاب الأخير رئيساً للجمهورية، وأيّدت واشنطن الترشيح. ويبدو أن هذا التأييد أثار ريبة "حزب الله"، فاختار الحزب حليفه الثاني ميشال عون رئيسا.
هيل لا يريد تعديل سياسة أميركا ودفعها للتدخل في لبنان، ولكنه في الوقت نفسه يرى أن تجاهل لبنان بالكامل — كما هي السياسة الحالية — يؤدي إلى أزمات ذات تكاليف مرتفعة على واشنطن في ما بعد. المطلوب، حسب الديبلوماسي الأميركي المتقاعد، هو تدخّل متدنٍّ، إنّما ثابت، بدلاً من التأرجح بين تدخّلٍ كثيف وإهمال كامل.
ويكتب هيل: "على الإدارات الأميركية أن لا تعطي لبنان أهمية أكثر مما يستحق، ولكن عليها أن تفهم التصرفات اللبنانية والأميركية التي أضرّت بصورة الولايات المتحدة وبمصالحها".
ويضيف: "منح لبنان الاهتمام بشكل ثابت، معتدل وواقعيّ، قد يسمح للمسؤولين الأميركيين بتفادي الوقوع في أزمات، أو يسهّل من إدارة هذه الأزمات بتكاليف معقولة". ويتابع هيل: "كذلك من شأن الثبات في كميّة متواضعة من التدخّل أن يسمح للبنانيين ببناء سياساتهم على معطيات أوضح، وهو ما يفيد المصالح الأميركية، ويسمح بالدخول في شراكات أثبت".
وفي محاولة إقناع واشنطن بالتدخل في لبنان، يتابع هيل: "قد يرى المسؤولون الأميركيون غالباً أن لا نتائج تذكر لأي استثمار في لبنان، ولكن من الضروري تذكيرهم بأن إهمال لبنان قد تتأتى عنه تكاليف أكبر"، مثل قيام "حزب الله" الذي لا يمكن ترويضه" أو ضبطه؛ وهكذا، فإن الاستمرار في تجاهل لبنان سيؤدي إلى المزيد من الفوضى والصداع لأميركا.
التدخل الأميركي بشكل ثابت، وإن كان متدنّياً، يقول هيل، لا يكفي لحلّ الأزمة اللبنانية إذ إن أميركا "لم تتسبّب بمعضلة لبنان، الذي يعتقد زعماؤه بأنّ أميركا يمكنها حلّ مشاكل بلادهم".
ويبدو هيل مدركاً لسبب الأزمة الاقتصادية أكثر من أغلب اللبنانيين، فهو يعرف أن سبب المشكلة الرئيسي لم يكن الفساد، على استفحاله، بل قيام مصرف لبنان بتمويل ديون دولة لبنان، ممّا أدى إلى الانهيار.
ولم يكتفِ السفير الأميركي الأسبق بانتقاد سياسة واشنطن تجاه لبنان وحده، بل هاجم تذبذب السياسة الأميركية في الإقليم بشكل عام، وقال إن فصل أميركا نووي إيران عن تصرّفات طهران تمّ تفسيره على أنه الثمن الضروري الذي سدّده أوباما لإيران من أجل التوصل لاتفاقية نووية معها.
وانتقد هيل المعارضة الشعبية الأميركية للتدخل في أيّ حرب حول العالم، والتي اشتدّت بعد حربَي العراق وأفغانستان، تساندها اللوبيات، مثل الروسي والإيراني والقطري. وكتب: "إن انعدام الأمن واندلاع الحروب حول العالم ينجمان عن ضعف أميركا لا عن قوتها، وهو درس على صانعي السياسة الأميركيين والناخبين أن لا ينسوه عندما يتدارسون خياراتنا في الشرق الأوسط".
واعتبر الديبلوماسي السابق أن "الضغط الفعّال ضد الأنظمة التوتاليتارية الانتهازية يتطلب مواظبة، ووقتاً، ووحدة داخلية [في لبنان] في وجه أنظمة المقاومة والحروب غير المتكافئة (asymmetric)"، وهذه حاليا "ليست مزايا السياسة الخارجية الأميركية في الشرق الأوسط".
*باحث في مؤسسة الدفاع عن الديموقراطيات