النهار

تقرير "الأسوشيتد" ينفي الانتهاكات الجنسية ويشعل غضب إسرائيل... أي تبعات لمذكرات التوقيف؟
جاد ح. فياض
المصدر: "النهار"
تقرير "الأسوشيتد" ينفي الانتهاكات الجنسية ويشعل غضب إسرائيل... أي تبعات لمذكرات التوقيف؟
المدعي العام عمر خان ومحققون بقضايا جرائم حرب (أ ف ب).
A+   A-
نقلت وكالة "أسوشييتد برس" قبل أيام قليلة تحقيقاً حقوقياً – صحافياً، يُشير إلى أن ادعاءات إسرائيل بقيام عناصر حركة "حماس" بانتهاكات جنسية ضد إسرائيليات خلال عملية "طوفان الأقصى" في السابع من أوكتوبر "مفبركة" وغير صحيحة، وهو مستجد يحمل في مضامينه أهمية كبيرة على الصعيد القضائي والشعبي.

قد لا تغيّر هذه الوقائع مسار الحرب، لأن الحسابات السياسية وحدها تحكم الميدان، لكنها معطيات قد تُبدّل الرأي العام العالمي الذي شهد تحولات جذرية منذ ثمانية أشهر وحتى اليوم، كما قد تدفع بالمحاكم الدولية إلى إعادة النظر بقضايا الانتهاكات الجنسية التي نُسبت لعناصر "حماس"، خصوصاً وأن هذه المحاكم تشهد نشاطاً لافتاً على خط حرب غزّة.

وفي هذا السياق، لا بد من الإشارة إلى أن المدعي العام في المحكمة الجنائية الدولية كريم خان طلب إصدار مذكرات توقيف بحق ثلاثة من قيادات "حماس"، وهم اسماعيل هنية ويحيى السنوار ومحمد الضيف بسبب "جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية"، بينها العنف الجنسي المرتكب خلال هجوم السابع من أوكتوبر، إلى جانب طلب مذكرات أخرى مرتبطة ببنيامين نتنياهو ويوآف غالانت.

وبالعودة إلى التحقيق الصحافي، فإن وكالة "أسوشييتد برس" نقلت معطيات مفادها أن أحد متطوعي منظمة "زاكا"، وهي منظّمة حقوقية إسرائيلية، تراجع عن مزاعم أطلقها حول الانتهاكات الجنسية التي قال إنها حصلت خلال "طوفان الأقصى"، بعدما تبيّن أنها غير صحيحة، وقال: "إن الأمر ليس أنني اخترعت قصة، لكن اتضح أن الأمر مختلف، وقمت بتصحيحه".
 
المعلومات المستجدة في سياق الانتهاكات الجنسية قد تبدّل مسار القضية في أروقة المحكمة الجنائية نسبياً، وتُسقط تهمة العنف الجنسي عن "حماس"، فتُعيد للحركة وعمليتها الطابع السياسي العسكري، لكنها بالتأكيد غير قادرة على نفي كل الاتهامات الأخرى التي وجهتها المحكمة الجنائية لها، من قتل واحتجاز.
 
والجدير بالذكر أن العلاقة بين الوكالة الإعلامية الأميركية والحكومة الإسرائيلية متوترة جداً، وقبل أيام صادرت السلطات الإسرائيلية معدات الوكالة في إسرائيل بعد أن اتهمت المؤسسة الإخبارية بانتهاك قانون الإعلام الجديد من خلال تقديم صور لقناة "الجزيرة"، لكن وزير الاتصالات الإسرائيلي شلومو كارهي أمر بإعادة معدات التصوير التي صودرت.
 
كيف بدأت ادعاءات الانتهاكات الجنسية؟
بالعودة إلى المسار الزمني لهذه الادعاءات، فإن إسرائيل واظبت على اتهام عناصر "حماس" بارتكاب انتهاكات جنسية بعد ساعات وأيام قليلة من عملية "طوفان الأقصى"، وأكّد متطوعون من "زاكا" هذا الأمر، وحينها، نفت "حماس" مسؤوليتها وبرّرت حصول بعض الانتهاكات بتوجّه عدد من الغزيين، وهم ليسوا عناصر "حماس"، إلى المستوطنات والقيام بممارسات خاطئة، أثناء العملية.

واستمرت الحملة الإعلامية – السياسية وتصاعدت حدّتها بعد أيام من الهدنة وتسليم بعض الرهائن، وبالتحديد خلال أواخر تشرين الثاني. فبعدما ظهرت "حماس" بمشهد إنساني وهي تسلّم الأسرى وتودّعهم وقد بان للإعلام وكأن الحركة كانت تُعاملهم معاملة حسنة، أرادت إسرائيل الاستمرار بتشويه صورة "حماس" أمام الرأي العام الدولي، ففتحت من جديد قضية الانتهاكات الجنسية.

وقالت مسؤولة في الشرطة الإسرائيلية آنذاك أمام الكنيست إن التحقيق الذي يجريه الجهاز جمع إلى الآن "أكثر من 1500 إفادة صادمة" من شهود وأطباء وأخصائيين في علم الأمراض. وتحدثت عن حالات "جُرّدت خلالها فتيات من ملابسهنّ فوق الخصر وتحته" وعن شهادات اغتصاب جماعي وتشويه وقتل شابة.

وتحدّثت شهادة أخرى، بحسب فرانس برس، عن إصابات بطلقات نارية "في الأعضاء التناسلية والبطن والساقين والأرداف، وثديين مقطوعين أو عليهما جروح ناجمة عن طلقات نارية"، فيما تحدث عناصر إنقاذ عن امرأة "تنزف من المناطق التناسلية".

وفي شباط الماضي، اتهمت رابطة مراكز أزمات الاغتصاب في إسرائيل "حماس" بارتكاب انتهاكات جنسية أيضاً، لكن الحدث الأهم كان حينما أفاد فريق خبراء من الأمم المتحدة، في آذار، بأن هناك "أسباباً معقولة للاعتقاد" بأن أعمال عنف جنسي، بما في ذلك الاغتصاب والاغتصاب الجماعي، وجاء في تقرير الأمم المتحدة أنّه "تم جمع معلومات ظرفية موثوقة قد تشير إلى وقوع بعض أشكال العنف الجنسي، بما في ذلك تشويه الأعضاء التناسلية أو الإساءات الجنسية كوسيلة للتعذيب أو المعاملة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة".

ماذا سيحصل في حال تم نفي هذه الادعاءات؟
المحامية المتخصّصة في القانون الدولي الجزائي والأستاذة الجامعية ريتا عيد تقول إن "التحقيق الذي يُبيّن عدم حصول انتهاكات جنسية ليس نهائياً بالنسبة للمحكمة الجنائية الدولية، واعتماده كدليل من عدمه يعود إلى تقدير المحكمة، خصوصاً وأن المدعي العام عمر خان قبل أن يطلب من الغرفة الابتدائية إصدار مذكّرات توقيف، درس إلى جانب 8 خبراء كل الأدلة، وبينها أدلة الانتهاكات الجنسية، وما كان ليرفعها إلى المحكمة الابتدائية لو لم تكن الأدلة متينة".

لكن الجدير ذكره أن الاتهام بارتكاب جرائم ضد الإنسانية ليس مرتبطاً فقط بقضية الانتهاكات الجنسية، وفي حديث لـ"النهار"، تُشير عيد إلى أن "الغرفة الابتدائية المخوّلة البحث بطلب إصدار مذكّرات التوقيف تدرس كافة الأدلة وما يستجد عليها من حقائق للبت بالموضوع، لكن حتى ولو تم التأكّد من عدم ارتكاب انتهاكات جنسية من قبل "حماس"، فإن ثمّة جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية ستُلاحق عليها الحركة".
 
ما هي الجرائم التي تحصل في هذه الحرب؟
إلى ذلك، فإن قضايا جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية المرتبطة بحرب غزّة تشهد اهتماماً بارزاً في الآونة الأخيرة، انطلاقاً من تحرّكات المحاكم الدولية من جهة، وكثرة هذه الجرائم وتكرارها من جهة أخرى، بعد ارتفاع عدد ضحايا القصف الإسرائيلي في غزّة إلى أكثر من 35 ألفاً، بينهم أطفال ونساء وعمّال إغاثة وصحافيون وغيرهم.

في هذا السياق، لا بد من استعراض الجرائم التي حصلت في غزّة، وفق المحكمة الجنائية الدولية وخبراء حقوقيين، وتبدأ من "الإبادة" التي تنفّذها إسرائيل في غزّة مع مقتل أكثر من 35 ألف شخص غالبيتهم من المدنيين، وتمر بجريمة "التجويع" مع اشتداد الحصار على القطاع ومنع دخول المساعدات وفق المتطلبات، وتصل إلى استهداف المستشفيات والمرافق الصحية والإغاثية.

وتلفت عيد إلى أن الأدلة الأولية كافية لتثبيت هذه وقائع الجرائم في المحاكم، وبالتالي فإن الاتهامات موجودة وللطرفين، أي إسرائيل و"حماس"، وتعدّد عيد هذه الجرائم التي تأخذ المحكمة بتهمها:

جرائم حرب ارتكبتها إسرائيل ضد "حماس":

- تجويع المدنيين كأداة حرب، والمحكمة الجنائية تعتبر أن التجويع الحاصل في غزّة هو من أسوأ ما سبّبه الإنسان منذ الحرب العالمية الثانية.
- تعمّد إحداث معاناة شديدة، أو إلحاق أذى خطير بالجسم أو بالصحة.
- القتل العمد بما فيه ما استهدف عمال الإغاثة.
- تعمّد توجيه هجمات ضد السكان المدنيين.

تبرّر إسرائيل ارتكاباتها في غزّة بذريعة "الدفاع عن النفس"، لكن في هذه الأحوال، المحكمة لا تأخذ بالاعتبار "حق إسرائيل بالدفاع عن نفسها"، لأنها تخرق قواعد الحرب والقانون الدولي الإنساني التي لا يمكن الإعفاء من الالتزام بها مهما كان الظرف حسب عيد.

وبالنسبة لجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبتها "حماس" من منظور التهم التي تنظر فيها المحكمة:
- قتل مدنيين في المستوطنات.
- احتجاز مدنيين كرهائن.
- معاملة قاسية مع الرهائن.
- التعذيب.
- الاغتصاب وغيره من أشكال العنف الجنسي.
- الإبادة باعتبارها جريمة ضد الإنسانية.

وتُشير إلى أن إسرائيل ترتكب جرائم ضد الإنسانية بحق الفلسطينيين أيضاً، إذ تقوم باعتداء ممنهج أو على نطاق واسع، من خلال قتل وتهجير واضطهاد أعداد كبيرة من الفلسطينيين.

وبحسب عيد، فإن كل هذه الجرائم مدعومة بأدلّة ومرفوعة للمحكمة الابتدائية، ولم يسبق اجمالاً للأخيرة أن رفضت أي طلب إصدار مذكرات توقيف صادر عن مدعٍ عام، لكن المسألة تحتاج إلى فترة تتراوح ما بين الشهرين والثلاثة أشهر لإصدار قرارها، وقد ترفض وينتهي الموضوع عند هذا الحد، أو تقبل فتصدر مذكرات التوقيف.

هل يتم تنفيذ القرار؟
 دول عدّة أعلنت التزامها بقرارات المحكمة الجنائية الدولية، وعلى رأسها ألمانيا، وهي حليف أساسي لإسرائيل، إذ جاء على لسان أحد المتحدثين باسم المستشار الألماني أولوف شولتس التأكيد على التزام ألمانيا بالقانون وتسليم المتهمين في حال صدور مذكرات اعتقال بحقهم، بحال زاروا ألمانيا، لكن من الضروري الإشارة إلى أن لا قوّة تنفيذية للمحكمة لاعتقال المتهمين، ولا سلطة لها لإلزام الدول تطبيق قوانينها وتنفيذ مذكّرات الاعتقال.

وتستطرد عيد في هذا الإطار: "إصدار القرار لا يعني تنفيذه، فالمحكمة الجنائية أصدرت مذكرات توقيف بحق فلاديمير بوتين وعمر البشير وسيف الإسلام القذافي على سبيل المثال لا الحصر، ولم يتم تنفيذ هذه المذكرات، خصوصاً وأن لا قوة خاصة للمحكمة الجنائية، لكن على الدول التي صادقت على معاهدة تأسيسيها تنفيذ مذكراتها".

إلّا أن تبعات سياسية كبيرة سيخلّفها إصدار المحكمة الجنائية الدولية مذكرات اعتقال بحق نتنياهو وغالانت، فقرار هذه المحكمة في هذه الحالة سيؤكّد انتهاك إسرائيل حقوق الإنسان في غزّة وارتكاب جرائم ضد الإنسانية، ما سيزيد من النقمة الشعبية ضدها في صفوف الرأي العام العالمي، ويُصعّب عملية دعمها سياسياً وعسكرياً من قبل الدول الكبري، كالولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا.

ويتزامن القرار في حال صدر مع استياء دولي واسع من إسرائيل جرّاء ممارساتها في غزّة ورفضها كل التسويات التي تُعرض لوقف الحرب، وإصرارها على اجتياح رفح دون خطط واقعية لإجلاء النازحين، ومع تحرّكات شعبية لافتة كان آخرها اعتصام الطلّاب في الجامعات الأميركية، الأمر الذي سيُضعف المنطق الإسرائيلي أكثر من الحرب.

من جهتها، تقول عيد: "من غير المتوقع توقيف نتنياهو أو غالانت أقلّه في المدى المنظور، لكن التبعات السياسية التي سيخلفها قرار إصدار مذكرات توقيف ستكون مهمة، إذ إن هذه القرارات تؤكّد ارتكاب إسرائيل جرائم حرب وأخرى ضد الإنسانية، وبالتالي خرق القانون الدولي، ما سيُضعف موقفها أمام المجتمع الدولي فيُصبح الأخير محرجاً ويصير دعمها أصعب، كما أن حرية التنقل لكل منهما خارج حدود إسرائيل ستصبح مقيدة خوفاً من إلقاء القبض عليهما".

ما الفارق بين جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية؟
أما وبالنسبة الى الفارق بين جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، فيتطلب أن تحدث جرائم الحرب أثناء النزاع المسلح فقط، في حين أن الجرائم ضد الإنسانية قد يتم ارتكابها في حالات السلم أو النزاع المسلح أو حتى حالات العنف التي لم ترتق إلى درجة النزاع المسلح.

ثم إن الجرائم ضد الإنسانية ترتكب على نطاق واسع موجّه ضد أي مجموعة من السكان المدنيين، بخلاف جرائم الحرب التي قد تكون في إطار أفعال فردية ومعزولة، كما أن جرائم الحرب يمكن أن ترتكب ضد المقاتلين وغير المقاتلين بمن فيهم المدنيون، في حين أن الجرائم ضد الإنسانية تتطلب أن يكون الهجوم موجها حصراً ضد السكان المدنيين.

في المحصّلة، فإن حرباً أخرى تدور ميدانها المحاكم الدولية، والطرفان يُريدان إثبات جرائم حرب وأخرى ضد الإنسانية لإضعاف موقع العدو، في حين أن المحكمة الجنائية تقف أمام مفترق طرق خطير، فإمّا تُصدر قرارها بصرف النظر عن الضغوط الهائلة التي تتعرّض لها، وإما تخضع فتُبث عدم حياديتها، وتُصبح كافة قرارتها موضع شك.

[email protected]
الكلمات الدالة

اقرأ في النهار Premium