د.رائد المصري/ أستاذ محاضر في الفكر السياسي والعلاقات الدولية
صحافي لبناني وكاتب سياسي عربي ودولي
ينتظر العالم في كل مرة نتائج المتغيِّرات الديمقراطية في انتخابات البرلمان الأوروبي، التي ستنعكس حكماً تصويتاً لأحزاب اليمين المتطرفة واليمين الوسطية داخل كل دولة، خصوصاً فرنسا وألمانيا وبريطانيا بعد إيطاليا وهولندا، لتمتد هذه الشعلة التغييرية الناقمة على أداء السلطات الحاكمة إلى ضفة الأطلسي في الولايات المتحدة الأميركية، والتي يبدو أنها تعزِّز من فرص فوز ترامب في وجه بايدن، بعد التحوُّل الكبير في الانتفاضات الشبابية والجامعية جراء حرب غزة، والإبادات الوحشية التي يقوم بها نتنياهو، ودعم الإدارة الأميركية لسياسات إسرائيل بوجه الشعب الفلسطيني. فصار ثلاثة رؤساء غربيون يمثلون عمْق السياسات الليبرالية الرأسمالية المفرطة، رهينة الحصار السياسي، وهم على أبواب استحقاقات كبرى، ستُعيد رسم المشهد الدولي على وقع استمرار الحروب والنزاعات حول العالم، من دون ضبط أو إدارة، وهؤلاء الرؤساء المحاصرون انتخابياً، هم الرئيس جو بايدن والرئيس إيمانويل ماكرون ورئيس الوزراء البريطاني ريتشي سوناك.
ففي بريطانيا، وجد رئيس الوزراء ريتشي سوناك نفسه في موقف دفاعي بسبب السياسات الجامحة التي تنتهجها بلاده، وفي سبيل مواجهة ذلك، قرّر الدعوة إلى إجراء انتخابات برلمانية في 4 تموز.
وفي أميركا يواجه الرئيس جو بايدن منافسه ترامب، عبر شبكة تعقيدات سياسية وقضائية وأمنية، خرَّب عليه نتنياهو مساره الانتخابي الذي بات قريباً، رغم تقديمه ملفات وتنازلات مهمة للداخل الأميركي، كمِلف الاتفاق مع السعودية، وصفقة وقف النار في غزة، ولذلك هو اليوم أسير الاستحقاق الملحّ في المناظرة الانتخابية الأولى المقرّر إجراؤها في 27 حزيران.
أما في فرنسا، فقد تعطَّلت عجلة سياسات ماكرون بوقف مكابحها، بعد انتخابات البرلمان الأوروبي، بسبب الأداء القويّ لحزب التجمّع الوطني اليميني بزعامة مارين لوبان، فقرّر دعوة الناخبين إلى صناديق الاقتراع على مدى يومين في 30 حزيران و7 تموز لإجراء انتخابات مبكرة للبرلمان الفرنسي.
أحزاب اليمين الجديد في البرلمان الأوروبي حصدت نحو 175 مقعداً من أصل 720 مقعداً، وباتوا يشكّلون ثاني أكبر قوة في البرلمان خلف يمين الوسط والمحافظين، لكن قدرتهم على صياغة أجندة سياسية موحدة، في ملفات تتعلق بالاقتصاد والسياسة الخارجية وكل مؤسسات الاتحاد، أمر صعب للغاية، خصوصاً أنّ هذه الأطياف اليمينية بمجرد وصولها الى الحكم والسلطة تبدأ بالتمايز في خطابها، مع دخول بعض أحزابها إلى الحكم، أو اقترابها من ذلك على الأقلّ، كما تغيّر خطاب رئيسة الوزراء الإيطالية بشكل كبير منذ أن دخلت السلطة، فنزعت لبوس الشعبوية المفرطة، وانتهجت خطاباً قريباً أكثر إلى يمين الوسط، وهو ما فعلته لوبن مؤخراً، في إطار تأكيدها المتكرّر أنّ حزبها جاهز لتولّي الحكم، وليس مجرد حركة مشاغبة في أقصى اليمين، وكذلك فعل زعيم اليمين الهولندي المتطرّف خيرت فيلدز، الذي كان قد وعد بإجراء إستفتاء لإخراج هولندا من الاتحاد الأوروبي، فهو رطَّب كثيراً من خطابه المعادي للمؤسّسات الأوروبية.
أخيراً، فإن مقياس التهديد أو الخوف من وصول اليمين المتطرف في أوروبا إلى السلطة، تحكمه ضوابط ومزايا في الحكم، وأقصى ما يهمُّه ويركز عليه، هو ملفات صارت تُعَد على أصابع اليد الواحدة ويمكن استيعابها، كملف الهجرة واللجوء، وهو الملفّ الأساسي الذي أسهم في صعود اليمين المتطرّف، وبات أمراً واقعاً أن تتخذ إجراءات صارمة أوروبياً بالمهاجرين واللاجئين لم يعد ممكناً أن يمرر في أيّة أجندة سياسية حاكمة أو طامحة للحكم.
وكذلك العمل على تنشيط السياسات البيئية التي خلفت الاحتجاجات الكبيرة التي نفّذها المزارعون في العديد من دول الاتحاد أخيراً، وأدّت تلك الاحتجاجات إلى نتائج مهمة وتنظيم صارم في استخدام المبيدات الحشريّة، واستخدام أدوات التدفئة الكهربائية بدل الغاز، لتخفيف التكاليف والأعباء المعيشية على الأسر.
فيما يبقى هاجس اليمين المتطرف أوروبياً، هو روسيا وحربها على أوكرانيا وبضرورة إنتهاج سياسات لا تكنّ العداء المطلق لموسكو، ولا إلى تعزيز السياسات الدفاعية المكلفة، ولذلك لا تؤيّد أحزاب اليمين في العموم زيادة الإنفاق الدفاعي إلى 2% من الناتج المحلي، وفق معايير حلف الناتو، فهو عبء كبير على دولٍ غارقة في عجز كبير بموازناتها العامّة بعد الحرب الروسية الأوكرانية وانقطاع سلاسل التوريد من الطاقة والنفط والغاز.
تلك هي أهم ما يمكن أن يبني عليه اليمين الوسطي والمتطرف في أوروبا سياساته وتحشيده الانتخابي، عبر استقطابات حادة في بداية كل استحقاق، لكن سرعان ما يتم تدجين الخطاب السياسي لزعماء اليمين فور اقترابهم من جنات السلطة ونعيمها، ليتم التخفيف والتخلِّي التدريجي عن الخطابات النارية باستخدام المصطلحات النافرة والولوج إلى سياسات أكثر واقعية، فما يحكم الغرب هو مؤسسات دستورية وقواعد انتخاب ومدنية الدولة وعلمانيتها، وليس المزاجية والترابط الديني وفتاوى التكفير والقتل والتصفيات.