مشهد تاريخيّ شهده الكونغرس الأربعاء الماضي، حينما استضاف رئيس الوزراء الإسرائيليّ بنيامين نتنياهو، ليكون المسؤول الأجنبيّ الأوّل الذي يخطب أمام مشرّعي الولايات المتحدة أربع مرّات. ورغم غياب نائبة الرئيس كامالا هاريس وعدد كبير من النواب الديموقراطيين، وبعيداً عن المحتوى السياسيّ للخطاب، فقد كان استثنائيّاً من زوايا عدّة، وأبرزها الشكل مع موجات التصفيق الاستعراضية لنتنياهو المأزوم في حرب غزّة التي أزهقت أرواح أكثر من 30 ألف إنسان.
صبّ نتنياهو تركيزه على نقاط عدّة أثناء إلقاء الخطاب، وبدا كأنّه حضّر كلمته بعناية إعلامية واضحة، فحرص من خلال خلاصة أفكاره على إيصال رسائل متعدّدة للأميركيين، مفادها أنّ إسرائيل تقف على الجبهات الأولى وتخوض المعارك مع أعداء الولايات المتحدة نيابةً عنها، لكنّ الدعم مطلوب للاستمرار في المواجهات وإلّا تعاظم المخاطر.
"الضحيّة والبطل"
عرف نتنياهو كيف يلعب على أوتار مخاوف الأميركيين وهواجسهم، وعلى عواطفهم أيضاً، ليُصوّر نفسه "الضحية والبطل" في الوقت نفسه، وبدا أنّه نجح في استثارة المشاعر التي ظهرت جليّة من خلال نحو 80 جولة تصفيق حادّ وقف خلال الكثير منها أعضاء الكونغرس معبّرين عن حماسهم ودعمهم لنتنياهو، ما أثار لفت أنظار المراقبين.
كثُر رأوا في مشاهد التصفيق المتكرّرة، والتي كانت بمعدّل جولة تصفيق كلّ 40 ثانية كلام، الكثير من "المبالغة"، ظهر خلالها نوّاب الكونغرس كـ"جمهور لنتنياهو" لا ككبار مقرّري سياسات الولايات المتحدة، في حين رصد آخرون رسائل إلى الداخل والخارج، منها ما هو للإدارة الأميركية التي تقيّد بعض المساعدات، وأخرى للدول والمنظمات التي تنتقد أداء إسرائيل.
علامات يوزّعها اللّوبي الإسرائيليّ... بينها التفاعل
ثمّ أنّ في مشهدية التصفيق حسابات سياسية من نوع آخر يراها الأكاديميّ الإعلاميّ جمال نون، الذي يُشير إلى نفوذ اللوبي الإسرائيليّ داخل مؤسسات الولايات المتّحدة الدستورية، وبينها الكونغرس، وغير الدستورية، كالإعلام، ما يدفع بالنواب لمحاولة إرضائه، وذلك عبر إظهار الدعم المطلق الذي يصل حدّ المزايدة.
وفي لغة السياسة والإعلام، التصفيق محسوب وليس عفوياً، وبرأي نون الذي يتحدّث لـ"النهار"، يقول إنّ لكلّ مشرّع في الكونغرس علامة ينالها من خلال طريقة تعاطيه مع خطاب نتنياهو من قبل اللوبي الإسرائيليّ، ولكلّ حركة علامة، فللتصفيق والدعم علامة وللاعتراض علامة وللمقاطعة أيضاً، وجميعها تُصرف في السياسة وخارجها كون اللوبي الإسرائيليّ ذا نفوذ قويّ.
وفي هذا السياق، من المعروف أنّ للوبي الإسرائيليّ هامشاً واسعاً من الحركة في الانتخابات الأميركيّة الرئاسية والنيابية، انطلاقاً من تأثيره على الجالية اليهودية، مروراً بإنفاقه الانتخابيّ، وصولاً إلى أساليبه الانتقامية في وجه كلّ من يُعارض المصالح الإسرائيليّة، لكنّ أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية نبيل خوري يرى أبعاداً أكثر، منها ما هو انتخابيّ ومنها ما هو سياسيّ.
الفارق بين الجمهوريّين والديموقراطيّين
انطلاقاً من موجات التصفيق التي تصدّرها الجمهوريون، وفي ظلّ عدم حضور بعض الديموقراطيين وعلى رأسهم هاريس، يقرأ خوري واقعَين، الأوّل تعاطف الجمهوريين بشكل كبير مع نتنياهو وموافقتهم على سياساته من خلال تهنئته بالتصفيق الحارّ، وتردّد بعض الديموقراطيين الذي يعكس تحفّظهم على سياسات أدّت إلى مقتل الكثير من المدنيين في غزّة.
إلّا أنّ خوري لا يغيب عن واقع قدرة اللوبي الإسرائيلي على التأثير والتعاطف الأميركي مع اليهود، لكنّه يرى أنّه يتماشى مع قراءته، فالمرشّح الجمهوري دونالد ترامب شدّد خلال خطاباته على وجوب ألّا ينتخب اليهود الديموقراطيين، فيُمكن الاستنتاج أنّ الجمهوريين يوافقون إسرائيل على ممارساتها، في حين أنّ للديموقراطيين حسابات أكثر تحفظاً مردّها انتخابيّ لوجود جاليات عربية ومسلمة تنتخبهم.
مقارنة بين نتنياهو وآخرين... غلبة واضحة هذه أسبابها
إلى ذلك، سرت مقارنة في الإعلام والأوساط السياسية عن كلمة نتنياهو في الكونغرس وخطابات زعماء آخرين، وبدا ألّا أحد يستطيع منافسة رئيس الوزراء الإسرائيلي، حتى الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، الذي حظي بدعم أميركي كبير وتعاطف واسع، لم يُثر حماسة المشرّعين الأميركيين ولم يحظَ بموجات التصفيق نفسها.
في هذا الإطار، يقول نون لا اهتمام أميركيّاً لزعماء دوليين يشبه الاهتمام بزعماء إسرائيل، انطلاقاً من ألّا أولوية في الولايات المتحدة أمام إسرائيل، لكن برأيه، انّ ما حصل في الكونغرس ليس مرتبطاً بشخص نتنياهو بل بموقعه كرئيس وزراء إسرائيل، في حين يرى خوري أنّ نتنياهو يتمتّع باهتمام استثنائي لا تحظى به شخصيات إسرائيلية أخرى انطلاقاً من علاقاته التاريخية وأدواره منذ تسعينات القرن الماضي.
للأشخاص أدوار في العلاقات الدولية وطبعات خاصة توسمها سياسات وممارسات وحقبات معيّنة ترتبط باسمهم، وهذا ما يؤكّده خوري ويرى أنّه عامل ضمن جملة عوامل زادت من الاهتمام بنتنياهو، لكنّ نون يرى مشهداً آخر، ويقول إنّ كثيراً من النواب كانوا يفضلون شخصيةً إسرائيليةً أخرى لا تُسبّب لهم الإحراج، كون نتنياهو مطلوباً للمحاكم الدولية ولا يتمتع بمصداقية واسعة، وممارساته في غزّة تُحرج هؤلاء النواب.
إلّا أنّ رسالة واضحة أرسلها المشهد في الكونغرس يوم الأربعاء الماضي، يتفق عليها نون وخوري، رغم المقاطعة النسبية من قبل الديموقراطيين، مفادها أنّ إسرائيل أولوية أميركية لا يُمكن أن تسقط، والولايات المتحدة لن تتلكّأ في دعمها على كلّ المستويات، وأيّ تهديد تتعرّض له ينسحب على المصالح الأميركية أيضاً.
في المحصّلة، فإنّ ما تحصل عليه إسرائيل في الولايات المتحدة لا تحصل عليه أيّ دولة أخرى، وبغضّ النظر عمّا قيل وكُتب عن تباينات أميركية – إسرائيلية، فإنّ الثابت فوق كلّ المتغيّرات هو المصالح الإستراتيجية الثنائية المشتركة، التي عكسها نتنياهو في خطابه، وعكسها مشرّعو الكونغرس في طريقة تعاطيهم معها، فلم يكن السكوت علامة الرضا، بل التصفيق الحارّ جدّاً.