إيمان درنيقة الكمالي
أستاذة جامعية – باحثة سياسيّة
تحتل منطقة القرن الأفريقي بؤرة الاهتمام الدولي هذه الأيام، خاصة مع وصول التوتر بين الصومال وإثيوبيا إلى مستويات مقلقة تضع المنطقة على حافة "برميل بارود"، وتنذر بحرب محتملة بين البلدين. ولا شك أن الحرب بين إثيوبيا والصومال إن اشتعلت، فلن تبقى محصورة بين هاتين الدولتين، بل ستجر معها دولاً أخرى على رأسها مصر، وتركيا، فضلاً عن دول القرن الأفريقي، وسوف تؤثر على سلامة الملاحة في البحر الأحمر، الذي يعاني أصلاً بسبب سيطرة الحوثيين على باب المندب.
الطموحات الإثيوبية
لمّا كان الوصول الى منفذ بحري "هدفاً استراتيجياً" بالنسبة لها، فقد عمدت إثيوبيا إلى الاتفاق مع الكيان الانفصالي "أرض الصومال" أو إقليم "صوماليلاند"، للحصول على منفذ بحري على خليج عدن مقابل اعتراف إثيوبيا باستقلال هذا الإقليم، والذي سيحظى أيضاً من خلال الاتفاق بحصة في شركة الخطوط الإثيوبية.
وإقليم "أرض الصومال" تابع للصومال لكن أعلن استقلاله عن مقديشو اعتباراً من عام 1991، وذلك بالتزامن مع الحرب الأهلية التي أطاحت بحكومة البلاد حينها. وهو رابع أفقر دولة في العالم "إذا استقل"، ولا يتعدى عدد سكانه الـ 1.5 مليون نسمة. ولهذا الإقليم برلمان، وانتخابات وعلَم وجوازات سفر خاصة به، ولا ينقصه ليصبح "دولة" إلا الاعتراف الدولي. ويعتبر اتفاق الصومال مع إثيوبيا خطوة في هذا الاتجاه.
وقد أحدث الاتفاق الأخير بين إثيوبيا وإقليم صوماليلاند زلزالاً في منطقة القرن الأفريقي. فمنح إثيوبيا منفذاً بحرياً استراتيجياً على خليج عدن، عبر ميناء بربرة، سيؤثر بشكل مباشر على التوازنات القائمة في منطقة القرن الأفريقي، ويعزز من قدرة إثيوبيا على التفاوض في الملفات الإقليمية، خاصة ملف سدّ النهضة.
كما أن الاتفاق مقلق جداً بالنسبة لمصر، التي ترى فيه تهديداً مباشراً لأمنها القومي، خاصة وأن ميناء بربرة يقع على مقربة من باب المندب، المدخل الرئيسي لقناة السويس. وتخشى مصر من أن يؤدي هذا الاتفاق إلى تقويض مكانتها الإقليمية، وتقليل تأثيرها على الملاحة في البحر الأحمر.
وبموجب هذا الاتفاق، ستحل إثيوبيا أكبر مشاكلها الجغرافية بالحصول على منفذ المياه الدولية: فمع استقلال أريتريا عام 1993، أصبحت إثيوبيا دولة حبيسة، مضطرة للاستعانة بموانئ جارتها "جيبوتي" للتواصل مع العالم مقابل مئات الملايين من الدولارات.
والجدير بالذكر أن أبيي أحمد، رئيس وزراء إثيوبيا، كان قد مهّد لرغبة إثيوبيا في الحصول على منفذ على البحر في خطاب في 13 تشرين الأول 2023، معتبراً هذه القضية "مسألة وجودية"، زاعماً بأن "لإثيوبيا الحق في مياه البحر الأحمر الذي لا تطل عليه مباشرة، كما لمصر والسودان الحق في النيل الذي لا ينبع من أراضيهما".
من جهتها، ترى الصومال أن إقدام إثيوبيا الاستفزازي على توقيع مذكرة تفاهم "غير شرعية" مع "كيان انفصالي" أمر يهدّد وحدة وسلامة وسيادة الدولة الصومالية، التي تصرّ عليها. وترفض الصومال رفضاً تاماً منح إثيوبيا سوى منفذ بحري تجاري محدود، بينما تطمح أديس أبابا إلى سيطرة كاملة على هذا المنفذ، بما يضمن مصالحها الاستراتيجية.
هذا التباين في الرؤى، لا يشكل عقبة أساسية أمام التوصل إلى حل سلمي للنزاع فحسب، بل يزيد من تعقيد الأزمة وتوسّع رقعة الصراع، وقد يؤدي الى تزايد في التحالفات العسكرية والاقتصادية والاصطفافات الدولية، والتي ستعيد رسم وتشكيل خريطة النفوذ في المنطقة.
الدور المصري
في ظلّ الخلافات المتصاعدة مع إثيوبيا، لجأت الصومال إلى تعزيز علاقاتها مع مصر، التي ترى ضرورة إجهاض الطموحات الإثيوبية لما تمثله من تهديد لمصالحها في المنطقة. وقد تجسَّد ذلك في الاتفاقية التي وقعتها الدولتان في 14 في آب الماضي، والتي بموجبها ستحل "قوات مصرية" في بعثة حفظ السلام الصومالية، محل "القوات الإثيوبية" التي من المفترض أن تغادر في نهاية السنة؛ الأمر الذي أثار مخاوف إثيوبيا من تصعيد التوتر الإقليمي، حيث ترى أديس أبابا في هذه الخطوة تهديداً مباشراً لأمنها واستقرارها. وعلى الرّغم من أن مصر أكدت أن هدف القوات المسلحة المصرية دفاعي تدريبي محض، إلا أن إثيوبيا تشكك في هذه الأهداف، وترى فيها محاولة لتقويض نفوذها في المنطقة.
التصعيد الإثيوبي يقابله تصعيد صومالي مصري
ورداً على ذلك، وبدلاً من استعداد القوات المسلحة الإثيوبية للانسحاب من الصومال مع انتهاء مهمة الاتحاد الإفريقي، قامت أديس أبابا بنشر قوات عسكرية إضافية في إقليم غيدو، وسيطرت على مطارات رئيسية مثل لوق ودولو وباردير. هذه التحركات العسكرية الإثيوبية تهدف بشكل واضح إلى تأكيد النفوذ الإثيوبي في المنطقة، وعرقلة الانتشار المخطّط للقوات المصرية.
وفي تصعيد خطير للأزمة، اتُّهمت القوات الإثيوبية "بالتعاون" مع حركة الشباب المصنّفة انّها "إرهابية" -والتي من المفترض أن تحاربها القوات الإثيوبية، وهو ما يمثل انتهاكاً صارخاً للقانون الدولي، ويهدد بإشعال حرب إقليمية يصعب التنبؤ بمآلاتها، خاصة بعد أن دخل الصراع الإثيوبي الصومالي مرحلة جديدة من التصعيد، حيث ردت مقديشو على التحركات العسكرية الإثيوبية بتهديداتٍ مباشرة "بفتح قنوات" مع الميليشيات المناوئة للحكومة في إثيوبيا.
ومن المعلوم أن إثيوبيا تواجه تحديات أمنية متزايدة على حدودها الشاسعة مع دول القرن الأفريقي: الصومال، جيبوتي، أريتريا، السودان، جنوب السودان، وكينيا. ففي الشمال، تتهم أديس أبابا أريتريا بدعم ميليشيا "فانو أمهرة" الموجودة على الحدود الإثيوبية السودانية، الأمر الذي يزيد من حدة التوتر بين البلدين. وتأتي زيارة المسؤولين المصريين إلى أريتريا، وتركيزهم على الأمن البحري في البحر الأحمر، لتزيد من مخاوف إثيوبيا بشأن التحالفات الإقليمية المتشكلة ضدها كذلك تشهد الحدود مع كينيا توترات متصاعدة، بينما تسعى الصومال لاستغلال الأوضاع الداخلية المعقدة في البلاد لدعم الجماعات المعارضة. ويزداد الوضع صعوبة وخطورة مع ارسال مصر شحنة من الأسلحة إلى الصومال، واتهام إثيوبيا مصر بتغذية النزاعات الداخلية من خلال دعم حركات التحرير المناوئة لإثيوبيا.
لكنّ إثيوبيا تستمر في التصعيد، وذلك من خلال إرسال أسلحة إلى منطقة بونتلاند أو "أرض البنط"، شمال شرق الصومال، وهو إقليم غير مستقل عن الصومال لكنه يتمتع بحكم ذاتي ويعتبر "معقلاً للقراصنة"؛ فتكون بذلك إثيوبيا قد فتحت باباً واسعاً أمام القراصنة، الذين سيجدون في أرض البنط ملاذاً آمناً ومصادر للأسلحة، ما يعرّض السفن التي تعبر قناة السويس لخطر الهجمات والاختطاف، ويشكل تهديداً مباشراً للملاحة والتجارة الدولية.
دوافع إثيوبيا
ويبقى السؤال: لماذا أقدمت إثيوبيا اليوم على فتح ثلاث جبهات، (في صومايلاند، غيدو وأرض البنط)، علماً أنها ضعيفة واقتصادها منهار، وتخضع للعقوبات، وهي محطمة في الداخل ومفلِسة، ولها مشاكل في سمعتها الخارجية؟
لا شكّ أنّ ما يحرّك سياسات أبيي أحمد الخارجية هي الاعتبارات الداخليّة الملحة، وأهمها تراجع شعبيته المتزايد بسبب الحروب المتتالية التي خاضها ضد أبرز العرقيات الإثيوبية ، أورومو وتيجراي وأمهرة، بالإضافة إلى الأزمة الاقتصادية الخانقة، التي أضعفت قبضته على السلطة. لذلك يسعى أبيي أحمد من خلال المشاريع القومية، مثل مشروع سد النهضة والآن مشروع الحصول على منفذ بحري، إلى حشد الدعم الشعبي وتشتيت الانتباه عن المشاكل الداخلية، لتكريسه زعيماً لبلاده.
من ناحية ثانية، تثير تحركات إثيوبيا العسكرية تساؤلات حول الدوافع الحقيقية وراء هذه التصعيدات، والتي يرجّح البعض أن يكون لإسرائيل دور كبير في تشجيعها، وذلك بهدف تأمين منفذ بحري إثيوبي يمكن لإسرائيل استخدامه في مواجهة التهديدات الإيرانية في البحر الأحمر.
ومن المؤكد ان إثيوبيا تسعى إلى تحقيق عدة أهداف استراتيجية، أبرزها الحصىول على ميناء سيادي وتقوية مكانتها الإقليمية، وتجزئة الصومال والحؤول دون وحدتها، والأهم من هذا وذاك، تقويض أمن مصر، التي تعتبرها "خصماً إقليمياً" أو كما أكّد رئيس قوات الدفاع الوطني الإثيوبية، بيرهانو جولا أعداء إثيوبيا التاريخيين".
ديبلوماسية تركيا
وفي ظل التنافس الإقليمي المتزايد، أعلنت تركيا عن وقف إمدادات الطائرات المسيرة إلى إثيوبيا، ووقعت بالمقابل اتفاقية تعاون دفاعي مع الصومال، ما يعزز نفوذها العسكري في المنطقة.
وبعد تأجيل جولة المفاوضات من الثاني إلى السابع عشر من أيلول، أعلنت أنقرة لاحقاً تأجيلها المفاوضات إلى أجل غير مسمى، الأمر الذي ويثير تساؤلات حول جدية جهود تركيا الدبلوماسية، في ظل التوترات الإقليمية المتصاعدة، وتدخل قوى إقليمية أخرى مثل مصر.
تحول السياسة الأمريكية في القرن الإفريقي
وشهدت السياسة الأميركية تجاه الصومال تحولاً جوهرياً ملحوظاً، حيث أعلنت واشنطن عن دعمها لوحدة الأراضي الصومالية، مدفوعة بقلقها المتزايد من تهديدات الحوثيين للملاحة البحرية في باب المندب من جهة، والتنافس الإقليمي المتصاعد مع قوى مثل الصين جرّاء توسّعها خاصة في جيبوتي والصومال من جهة أخرى، ورغبة واشنطن في تأمين مصالحها الاستراتيجية قبل كل شيء. كما زادت واشنطن من دعمها للصومال وكينيا، وأرسلت تمويلاً بقيمة 1.3 مليار دولار للجيش المصري، لما تعتبره ضرورة لدعم الاستقرار الإقليمي.
في الختام، إنّ الصراع الدائر بين إثيوبيا والصومال يهدد بتفجير حرب إقليمية واسعة النطاق، مستدامة ومفتوحة قد تحول البحر الأحمر إلى ساحة معارك طاحنة، وتدفع المنطقة بأكملها، التي لا تنقصها المشاكل والتوترات أصلاً، إلى حافة الهاوية، خاصة مع تناقض مصالح اللاعبين الدوليين والإقليميين، ووجود "أراضٍ خصبة" للصراعات الدموية.