لم تكن تتخيّل ليندا أن يأتي يوم وتحقّق فيه حلمها بقيادة الحافلات بشكل علني ورسمي، لا سيما في مجتمعاتنا الذكورية، حيث تسود نمطية مؤذية. وهي على الرغم من عشقها لقيادة جميع أنواع الآليات منذ صغرها، شاءت ظروفها أن يتأجّل تحقّق حلمها حتى العقد الخامس من عمرها، حتى لعبت الصدفة لعبتها، فأتتها الفرصة لثبتت أنّه يمكن للمرأة القيام بأعمال مختلفة، كانت لمدة طويلة حكراً على الذكور، من دون أن تتخلّى عن أنوثتها في الوقت نفسه.
سائقة شاحنات صهاريج. هذه هي وظيفة ليندا عقل، السيدة الخمسينية التي تعمل في إحدى شركات المحروقات في لبنان منذ نحو خمس سنوات. تروي لـ"النهار" أنّه بعد أن توفّي زوجها، اضطرت لأن تعمل حتى تُعيل أولادها. عملت في الفترة الأولى كسائقة سيارة أجرة، ثم كان للصدفة دورها حين ركب معها أحد موظفي شركة المحروقات، التي تعمل لصالحها الآن. وخلال تبادل أطراف الحديث سوياً، أُعجِب بكونها سائقة أجرة، وأخبرته بمهارتها في قيادة الشاحنات؛ فلم يكن منه إلا أن نقل هذه المعلومة إلى القيّمين على الشركة، التي كانت تبحث عن موظفين للعمل لديها، فأرسلوا بطلبها.
"عندما قبلتني الشركة ضمن عديدها، لم أصدّق، وطرت فرحاً، وخلت أنّني في حلم"، تقول السيدة ليندا. فبالرغم من أنّها تعشق قيادة السيارات والآليات، لم يخطر في بالها أن يتمّ توظيفها كسائقة حافلات في مجتمع كلبنان، حيث لا تزال الصورة النمطية للمرأة مهيمنة.
خلال مقابلة التوظيف، أثبتت ليندا للقيّمين على الشركة قدرتها على قيادة الشاحنات، و"وضعت نصب عيني النجاح في هذا العمل، بالرغم من أنّ قيادة الصهريج مسؤولية كبرى على عاتقي، إذ إن أيّ خطأ خلال القيادة قد يؤدّي إلى كارثة"، تقول ليندا.
بعدها، خضعت ليندا لتدريبات معيّنة تتعلّق بآلية العمل ونمطه وماهية مسؤولياتها. وللتأكّد من قيادتها السليمة للشاحنة، نجحت ليندا في امتحان صعب لركن الشاحنة، ممّا أذهل الموظّف الذي رافقها، فلم يجد غير أن يقول لها: "أنا آت لأدرّبك، لكن على ما يبدو أنّك أنت مَن سيدرّبني!".
تعمل ليندا بين 140 موظفاً من الرجال الذين يحيطون بها، لتكون السيدة الوحيدة التي تقود شاحنة في الشركة. عملها ليس سهلاً بل متعب وشاقّ، لكنّها اعتادته. في بادئ الأمر، استصعبت وجودها بين هذا الكمّ الكبير من الرجال بسبب أحاديثهم التي لا يليق بالمرأة سماعها. لكنّني لاحقاً "قرّرت أن أظهر لهم وجهي الآخر، وهو وجه السائق، لكوني أعمل في جو السائقين، وأصبحت الآن مثلي مثلهم في الشركة، واندمجت في جوّهم"، وفق ليندا.
برأيها، ليس هناك أيّ وظيفة هي حكر على الرجل، ولا تقلّل أيّ وظيفة من أنوثة المرأة طالما التزمت الحفاظ عليها، "فأنا أضع الماكياج والأقراط، وأصفّف شعري، ولا أهمل هذا الجانب أبداً. وليس دور المرأة الوجود في المطبخ فقط"، هذا ما تشدّد عليه ليندا، مضيفةً أنّ لكلّ مقام مقالاً، حيث تهتمّ بمظهرها الأنثويّ بشكل دائم، وترقص في الحفلات والمناسبات بنعومة الأنثى، "فأنا تلميذة نادية جمال"، تقول بكلّ ثقة. لكنها عندما تنزل إلى ميدان العمل، تتعاطى مع الرجال باللغة التي يتعاطون بها معها، و"في الصالونات، أبرز أنوثتي وشخصيّتي". وعندما ترتدي لباس العمل، جلّ ما تفكّر فيه هو قيامها بالعمل على أكمل وجه، غير آبهة بأيّ كلام جندريّ يميّز بين الجنسين في عملها.
لا تفكّر ليندا في الزواج - وفق قولها - فهي بمجرّد أنّها تقوم بهذه الوظيفة فقد ألغت فكرة الزواج نهائياً من بالها، "فلا أحد يتزوّج امرأة بنظره تشبه الرجال من حيث المظهر". لكنها من حيث سلوكيّاتها، لم تؤثر هذه المهنة فيها أبداً، بل "أنا أصبحت أكثر محافظة على نفسي" تؤكّد.
وتقف ليندا ضدّ المقولة الشائعة بأنّ هناك وظائف "تسترجل" فيها المرأة، وهناك مَن يعتقد أن التي تريد أن تقوم بوظائف الرجال، عليها أن تكون كالرجال بكل شيء، "لكن ليس هذا هو الواقع أبداً، وأرفض هذا الكلام بشدة. فأنا أقوم بعمل الرجال لكنّني لا أنسى أنوثتي أبداً"، وفق قولها.
وتستذكر ليندا كيف بدأت قصّتها مع قيادة الآليات المتنوّعة، إذ كان والدها سائق قاطرة قديماً، كذلك والدتها تعلّمت قيادة الشاحنات على يد زوجها، وكانت تجيد تصليح الشاحنات في منطقة عين الرمانة. وعاشت ليندا في أجواء قيادة الشاحنات منذ صغرها، وتعلّمت القيادة حين كانت في الـ11، وقادت شاحنة للمرة الأولى عندما كان عمرها 14 عاماً.
لطالما استمتعت ليندا بقيادة أيّ نوع من أنواع الآليات، وجميع السيارات التي قادتها كانت من السيارات الأميركية الضخمة، ولم تكن تهوى أبداً السيارات الصغيرة. فقد "كان لديّ هوس بقيادة الآليات منذ صغري"، تردّد السيدة.