كان يا مكان، أميرةٌ صغيرةٌ، شعرَت بمللٍ خانقٍ خلال حفل تتويج والدها، وابتهَجَت لسماعها كلمة "Finis"، معلنةً اكتمال المراسم. وذات ليلةٍ، بعد أكثر من ثمانية عقودٍ، أرادت أن تعود طفلةً في أحضانه، فما وجدت سوى التذكارات التي تُشعل الأشجانَ عوض إخمادِها.
"لا مفرَّ من أن أبدو شخصيّةً بعيدةً إلى حدٍّ ما بالنسبة لكثيرين منكم؛ شخصٌ قد يكون وجهُهُ مألوفاً في الصحف والمقاطع المصوّرة، ولكنّه لا يمسُّ حياتكم الشخصية بتاتاً. لكنّني الآن، لبضع دقائق على الأقلّ، أستقبلكم في رحاب منزلي".
ما سبقَ، مقطعٌ من أوّل رسالة ميلاديّة مُتلفزة للملكة إليزابيث الثانية، بُثّت مباشرةً من مكتبة قصر ساندرينغهام في نورفولك. يومذاك، خرجت رئيسة الكومنولث من الإطار الأيقونيّ المتسامي ودخلت ديار الرعيّة. وإن كان القمر فقدَ شيئاً من هالتِهِ بعدما لمسَه الإنسانُ، فإنّ إليزابيث بتحوّلها من رسمٍ أصمّ، يسمو رمزيّاً بمقام الـ"استرلينيّ"، إلى ضيف غفلةٍ على شعبها، قد باتت الملكة المُستقيمة التي بلغ عدد مشاهدي احتفالات يوبيلها البلاتينيّ 13.4 مليوناً عبر هيئة "بي بي سي".
(الأميرتان إليزابيث ومارغريت في بالمورال في العام 1939/"بي بي سي")
"لطالما استمتعتُ بتوثيق لحظاتٍ عائليّة"، تروي "ليليبت" بصوتها الرفيع، مطلعَ الفيلم الوثائقيّ "إليزابيث: الملكة غير المرئيّة". "في أغلب الأحيان، تُظهر الصُّور الخاصّة المتعةَ خلف الشكليّات (...) تأملُ دوماً في أن تجدَها الأجيالُ المقبلة مثيرةً للاهتمام، وربّما تُفاجأُ بكونكَ كنتَ أيضاً شابّاً ذات مرّة".
تُكرّر الملكة عبارة "غالية" مرّات عدّة لوصف اللحظات العائليّة، فيما يكشف قصر بكنغهام عن لُقْيات تُثير الفضول، بعيداً من الأحداث الميلودراميّة التي غذّت صحافة الشائعات لعقود. تغصّ الشاشة بمشاهد ملوّنة من الأربعينيّات بعدسة كاميرات الـ"سوبر 8"، التقطها الوالدان الملك جورج السادس والملكة الأم، والعمّ الملك إدوارد الثامن، بالإضافة إلى الأمير فيليب والملكة نفسها.
(الأميرة إليزابيث في العام 1938/"بي بي سي")
سِحرُ الفيلم والدهشة يكمنان في السنوات الأولى التي سبقت البلوغَ ومرضَ جورج السادس، يوم كانت إليزابيث طفلة، وكانت يوميّاتها خاليةً من الهموم، تسعدُ بالكاميرا واهتمامِ والدها. ويقود الوثائقيّ الأحداث ببطء حتّى يبلغ لحظة تتويج إليزابيث واعتلائها العرش قبل 70 عاماً بالتّمام والكمال.
ثمّة نفحةٌ جنائزيّةٌ تُسيطر على الفيلم. إن كانت الذكرى "شكلاً من أشكال اللقاء"، على ما يُخبرنا جبران خليل جبران، ففي الذكريات التي نحتفظ بملامحها مصوّرةً غصّةٌ تحفر في العمق، ساعةَ نعثر عليها في ألبومٍ، ضعيفةً، واهيةً، آيلةً للاندثار.
(الملك جورج السادس يتوسّط ابنتيه إليزابيث ومارغريت في العام 1947/"بي بي سي")
في مشهد يغصّ بأريج الأبوّة والبنوّة، وبينما كانت الأميرة الشابّة تُصوّر وحيد القرن والفِيَلة في كينيا، ذاتَ شباطٍ من العام 1952، كان الموت يوثّق ذكرياتها الأخيرة مع أبيها.
كان يا مكان، أميرةٌ صغيرةٌ، شعرَت بمللٍ خانقٍ خلال حفل تتويج والدها، وابتهجت لسماعها كلمة "Finis"، معلنةً اكتمال المراسم. لكنّ الكلمة التي أفرحتها في حداثتها سرعان ما أعلنت غيابَ أبيها إلى الأبد، وأذِنَت بوداع زوجها الذي كتبَ ذات يومٍ في رسالة إلى أمّها: "ليليبت هي الشيء الوحيد في هذا العالم الذي يبدو حقيقيّاً تماماً بالنسبة لي".