النهار

بيت البركة تُهدينا بيت كنز برائحة الياسمين البرّي
هنادي الديري
المصدر: "النهار"
بيت البركة تُهدينا بيت كنز برائحة الياسمين البرّي
بيت البركة.
A+   A-
المبنى ينضح بهدوء غريب وكأنّ شاشة الذكريات المُلتصقة بالجدران، طوتها رائحة الياسمين البرّي التي تترنّح في الحديقة الخلفيّة بقصصها العابرة.
 
هيا بنا نزور "بيت كنز"، هذا المُلتقى الثقافي الذي يُقال أنّ "شغله الشاغل" الاحتفاء بتُراث الحرف والأكل اللبناني. ويُريدنا، نحن الذين ما زلنا مُتمسّكين بالحلم وبهذا البلد "اللذيذ المذاق"، أن نمدّ يد المحبة والتفهّم لتراثنا وتاريخنا بـ"هياكله" الرائعة... ومربّى المشمش يُصاهر هذه الليمونة التي وضعت بتأنّ على الطاولة، ولم يحن الوقت بعد للاستمتاع بعصيرها المرح حتى الحلاوة!
 
نجد هذا البيت داخل أحد مباني العاصمة المُزخرفة بندوبها المُحببة. هو بطبيعة الحال مبنى أثري يُشرف على شارع سرسق المُزخرف، بدوره، بتاريخ يهز رأسه بشكل هادئ يُجاور السكون.
 
 
لا فائدة من التوبة. فالجرائم في حقّ جمال بلدنا لن تتوقف على الأرجح. ولكن البعض منّا ما زال يُريد وبأيّ ثمن التعلّق بالأشجار والياسمين البرّي. في هذا المبنى الذي تمّ تشييده "على مراحل" ما بين 1880 و1940، تجتمع أساليب معماريّة كثيرة تعكس، تاريخ العمارة في العاصمة الجريحة، منها المحليّة ومنها العثمانيّة، أضف إليها زخرفات خشبيّة مُتقنة ومجموعة مميزة من التصاميم. هذه الكلمات الجميلة مأخوذة من الكرّاس الذي يروي قصة مبنى دمرّه ذاك الانفجار الذي ما زال يقطن في روحنا، وأعادت "بيت البركة" ترميمه بفضل إصرار المؤسسة مايا إبراهيم شاه على تمكين المرأة اللبنانيّة وعلى تعزيز دور المناطق الريفيّة التي غالباً ما ننساها، نحن الذين فقدنا حتى لذّة الذكريات.
 
في "بيت كنز" المؤلف من غرف مُتعددة الاستعمال تجعلنا نشعر وكأنّ البلد بألف خير، "ونحن أيضاً بيلحقنا معه كم طرطوشة"، يجتمع الطعام والتقاليد والمهارات.
ولا ننسى المبادرات الصغيرة التي سيكون لها الدور المحوري في البيت الذي هو في الواقع ملتقى ثقافي يحتفي بتراث الحرف والطهي اللبناني.
 
 
وكانت مايا إبراهيم شاه الأنيقة والإنسانيّة قد أسست "بيت البركة" بعدما صدمتها مشاهدة نساء وصلن إلى سنّ مُتقدمة من العمر وانتقلن إلى الشارع ليتلحفن سماء الظلم بعدما كنّ فاعلات في المجتمع ووجدن أنفسهنّ بعدما زارهن الزمن، " ع الطريق. بالشارع".
 
ومنذ العام 2019، وهو تاريخ تأسيس بيت البركة الجمعية التي تُعيد الكرامة للذين "برم الدولاب" على صباحهم وإشراقته شبه الغائبة، تمكّنت مايا وفريق عملها من تأمين الحماية إلى أكثر من 200 ألف مُتقاعد لم تلتفت الدولة يوماً إليهم، وأكثر من 30 ألف عائلة زارها الفقر بابتسامته الناعمة حتى الإجرام.
 
 
ذات يوم، فوجئت مايا إبراهيم شاه برؤية سيّدة ظهرت عليها علامات الأناقة والترتيب والرقي، في الشارع طوال أيام عدة. وضعت أغراضها في حقيبة خُيل لمايا أنها مُخصصة للسفر. ولكن هذه السيدة التي روت لمايا وبعد إصرار منها أنها أستاذة لغة فرنسية مُتقاعدة، وجدت نفسها في الشارع، ولم تكن في طريقها إلى بلد آخر. وأكثر ما أثر في مايا أنّ السيدة الوقور لم تستسلم للبكاء إلّا بعدما وثقت بأنّ إبراهيم شاه التي ظهرت فجأة لتساعدها من دون أن تطلب أي شيء في المقابل، لن تشفق عليها بل ستقف إلى جانبها لتحفظ كرامتها.
 
وولدت بفضل هذا اللقاء، جمعية "بيت البركة" في العام 2019، بهدف مساعدة العائلات المحتاجة. وراحت مايا توفر فرص العمل في نطاق الزراعة والإنتاج. وصار لمئات ربات المنزل الفرصة الجميلة للعمل داخل حلبة المونة اللبنانية والأشغال اليدوية.
 
 
وها هو "بيت كنز" المنبثق من بيت البركة يفتتح أبوابه في المبنى القديم الذي ينضح بهدوء غريب، ويتحوّل الموقع الرائع الجمال الذي يُصرّ على تصريف الإنتاجات المحليّة، ولكن له أكثر من دور، وفي كلّ غرفة فيه حكاية وعالم صغير خاص.
 
في "بيت كنز"، نجد بيت المونة ومجموعة كبيرة من منتجات صًنعت يدوياً من قبل أكثر من ألف سيدة في 53 بلدة. ونجد أيضاً متجر الحرف وهو منصة للحرفيين المحليين ينطلق منها الحرفي المحلي إلى العالم بأسره، و"شوفوا شو فينا نعمل إذا حدن إطلّع فينا". مُصممون ومطرّزون من بعلبك وبعض النحاسين في طرابلس ونافخو الزجاج في صور وصانعو الصابون في صيدا، وعمّال الخشب في الحدث. وفي البيت أيضاً مقهى ومطعم وقائمة الطعام أشبه برحلة عبر الزمن، كما تؤكد لنا مايا.
 
 
مُغامرة في عالم المأكولات؟ لم لا!
 
نتذوّق وصفات تُهدهد تاريخ الزراعة والطهي في لبنان. ولكلّ الأطباق الموسميّة خلفيتها التاريخيّة. نأكل ونستمتع وفي الوقت عينه نغوص في تاريخ "هذه اللقمة وتلك"!
 
وبطبيعة الحال تمّ إعداد وتطوير هذا العمل مع أستاذ التاريخ الرائع شارل حايك الذي يُعرّفنا إلى الخلفيّة الثقافيّة لكلّ غرفة في هذا البيت المُعلّق بين غيوم الأمل. ومعه نتعرّف إلى تاريخ الأزياء اللبنانيّة أيضاً. وداخل الفسحة الجميلة والمؤلفة من 300 متر، نوافذ المندلون البيروتيّة وأسقفة مزخرفة برسومات يدويّة وقناطر ندخل من خلالها غرفة أو أخرى.
 
 
تمّ العمل، بحسب مايا، على هذا المشروع الضخم الذي سيكون لنا معه أكثر من لقاء، "من قبل 24 جهّة مانحة من المؤمنين بضرورة الحفاظ على تراثنا الثقافي. ودعم نسائنا وحرفيينا في إنتاجاتهم المحليّة. كافة عائدات مؤسسة كنز يتمّ التبرّع بها بالكامل إلى بيت البركة لدعم 226000 أسرة لبنانية من أطفال ومتقاعدين".
 
إلى بيت كنز حيث نحتسي القهوة المُنكهة بالهال ونلتهم المشهيّات الريفيّة ونختار ما طاب لنا من مونة وحرف، وننسى ولو لهنيهات بأننا نعيش عشرات الحروب يومياً للبقاء على قيد ما يُشبه الحياة. ندعم كلّ الذين لا يلتفت إليهم أحد، وكأنّ الحياة نسيت وجودهم. ونُعزز دور الحرف والمأكولات والأزياء اللبنانية. لا نتعامل بشفقة مع هؤلاء الذين "برم دولابهم"، بل نُلقي التحيّة لمواهبهم وقدرتهم على العطاء.
 
فنجان آخر من القهوة الشهيّة المنكهة بالهال، من فضلكم، في الغرفة الحميميّة التي تُشرف على الحديقة التي تستقبل الياسمين البرّي. ولوحات وصور فوتوغرافيّة لعشرات الفنانين اللبنانيين تواسي عزلتنا، نحن الذين يُصر البعض أننا في طريقنا إلى المشنقة.
 
ولكنّنا في الواقع، نحن نكتب تاريخنا الجديد بواسطة انكساراتنا وشجيرات حديقة الخيبات التي بتنا نعيش فيها. حديقة يستريح فيها الياسمين البرّي.
 
 
 
 

الكلمات الدالة

اقرأ في النهار Premium