دفاتر فنان يُراقب الرايح والجايي من نافذة محترفه الكبيرة التي تُشرف على درج مار نقولا ذائع الصيت، والعشّاق يتساءلون: "لماذا نتعامل مع هذه التفاصيل الصعبة والمعقدة والمُتعرّجة التي نُطلق عليها اسم العلاقات؟".
يُحوّلون الدرج ساحة لحروبهم الرومنطيقيّة الملحّة.
والفنان إبرهيم سماحة يُراقبهم من مُحترفه الحميم المُعلّق على أرجوحة زخرفها بكلّ ما لم يملك الفنان الشاب الجرأة على البوح به بعد، ويملأ دفاتره بضراوة وصبر بمشاهدَ لم تكن يوماً عابرة، وتترنّح عروقه خارج روحه الفوّارة بحثاً عن لحظاتٍ من السلام لم تكن يوماً "عرضيّة".
هناك عوالم كاملة مؤلفة من المشاهد التي يعجز عن ترجمتها في هذا العالم الخارجي التائه، والفنان يبتسم بما يُشبه الابتسامة المزائفة لما ترتديه من براءة وانضباط كامل للنفس، ويُراقب بعمق مُحيطه. يتظاهر بأنه لا يخترق عوالم "الرايح والجايي"!
ودفاتر الرسم تتراكم...
أحياناً يخفيها في حقيبة أنيقة.
"إلا ما يجي وقتها".
الزيارة طويلة. ننتظر الكهرباء "تتشرّف" فنحتسي تالياً "كمّ فنجان" إسبريسو "ع الماشي".
ابراهيم سماحة يُراقب المدينة التي ترقص على أنغام خيباتها المُتتالية، وينقل مزاجها المُتقلّب ومزاجيّتها التي تشي بآلام سيكتب التاريخ عنها الكثير.
دفاتر الرسم نادراً ما تُفارق يوميّاته. وهو يتحاور مع مُحيطه من خلالها، ثمّ يضعها بترتيب وتأنٍ في الحقيبة السوداء أو في زاوية محترفه في الجميزة، أو الآخر في الخنشارة. هذه الرسوم ليست للبيع أو للعرض. هي يوميّاته التي يكتبها، وألوانه الحميميّة التي لا يبوح بها لأحد. يجلس لساعات في شوارع المدينة
"المخفيّة"، كما يرسم تقلّبات روحها في الأماكن العامة أحياناً، إذا كان يتابع حفلة موسيقيّة أو "شي عرض مسرحي". لا يُمانع في أن يجده الناس غريب الأطوار. يبتسم تلك الابتسامة التي قد توحي بالبراءة لولا تلك الحدّة التي تتسرّب من هنا وهناك، وتنتقل تالياً إلى الرسوم شديدة الدّقة.
والفنّ هو العلاج الأقسى، و"إلا ما إلو طعمة بالمرة".
والمدينة تنقل أسرارها بخجل لهذا الشاب الذي تدّعي ابتسامته براءة لا تعكس الجنون والخلق والأحاسيس المُفرطة التي يُحاول جاهداً أن يخفيها؛ والجنون والعاطفة المُتطرّفة تظهر في التفاصيل الدقيقة، في الرسمات التي اتخذت الدفاتر موطنها.
والدفاتر تتراكم... إبراهيم سماحة لا يُريد أن يعرضها!
ها قد "شرّفت" الكهرباء! نحتسي القهوة. الفنجان يليه آخر. نتحدّث عن الدفاتر المُتراكمة بتهذيب في الحقيبة الأنيقة. لونها أسود، على فكرة! ولكن الحديث يأخذنا بلا قصد منّا إلى رواق الحُبّ. هذا العاشق العنيد والمغرور الذي لم نتمكّن من أن نحلّ لغز اعتداده المُفرط بنفسه بعدُ. ودفاتر الرسم التي يُعالج إبراهيم نفسه من خلالها هي بدورها التجسيد الأقسى عن تلك الأخطاء التي ارتكبناها تجاه أنفسنا، وتجاه من نُحبّ باسم الكرامة. والمدينة تعرّت أمام هذا الشاب الذي يدّعي الهدوء، والذي يستقبل الرايح والجايي بابتسامته التي قد يُصدّق البعض أنها بريئة، لولا ومضات العواطف المُفرطة التي تتسرّب منها.
يأخذنا الحديث إلى والده وتأثيره الكبير عليه وعلى عشقه للفنّ. أحياناً يرسم والده وهو نائم. والدفاتر تأتي بكلّ الأحجام. تجتمع حول التفاصيل المُرهقة والمُريحة في آن التي تستقرّ في كلّ زاوية من الأوراق.
يختار الوسائط الفنية التي تزوّد أعماله بالروح. الرسوم الجامدة والكاملة في ما يتعلّق بتقنيّتها لا تستهويه.
"شفتوا؟"، ألم نقل لكم إن إبراهيم ليس كما يطلّ علينا، نحن سُجناء العالم الخارجي؟
المال، يجنيه ليتمكّن من أن يقتني الأدوات الفنيّة التي تُسعفه في استخراج الروح من أعماله الجميلة والشديدة الدقة. وهو يجلس لساعات طويلة في شوارع مدينة "مش عارفة الله وين حاطتها".
ربما دعم رسمة أو أخرى ببعض المُلصقات، ببعض الكماليّات التي يختارها من زياراته للأماكن العامة، ومنها المقاهي والمطاعم.
يمضي أيامه حالياً في الخنشارة، في منزل العائلة. يرسم. يُصادق الطبيعة. تُرافقه دفاتر الرسم. يزور بيروت بين الفينة والأخرى. الدفاتر شاهدة على هذه الزيارات القصيرة. إبراهيم سماحة الذي يعرفه كُثر بفعل المهرجان الذي أطلقه منذ سنوات طويلة، "كابريوليه"، له ألف قصّة ونزوة مع الفن. ولكن في هذا المساء، في المحترف القائم في الجمّيزة، حديثنا يتمحور على دفاتر الرسم التي يوثّق من خلالها يوميّات عاصمة سُلب الفرح من عروقها، فإذا بإبراهيم سماحة يُعيرها عروقه، "لعل وعسى".
ولكن الدفاتر تعكس أيضاً أسفاره حول العالم. وتلك المشاهد التي شارك بطريقة أو بأخرى في جعلها أكثر تشويقاً وإثارة.
اعذرونا إذا ركّزنا على عاصمتنا الجميلة حتى الألم.
"ما مننلام".
ولكن إبراهيم يوثّق يوميّاته في كلّ المناطق والبلدان التي يستقرّ فيها، ولو لبضع ساعات أو أيّام، "يا خيّي يالّلي هنّي".
دفاتر الرسم هذه التي يخفيها بترتيب وتأنٍّ في حقيبته السوداء، التي سمح لي أن أبعثر خصلات شعرها كما يحلو لي، وبين رشفة من الفنجان الثاني من الإسبريسو، وبين اعترافات خطيرة عن حُب كُتب له أن ينتهي قبل أن يبدأ. والعشّاق يُحوّلون درج مار نقولا ساحة رومنطيقيّة لحروبهم الحارة. وإبراهيم يدّعي الهدوء. ولكن الرّسوم التي تتفتّح وردة جريحة بين يدي، تشي بعكس ذلك.
يعشق المغامرات. والتغيير لا يُخيفه.
أقلّه، هذا ما يقوله لي، قبل أن أودّع ابتسامته شبه البريئة، ودفاتره المسكونة بأحاديث المدن ونوبات جنون عاصمتنا الخليلة... وعواطفه المُفرطة التي يُحاول جاهداً أن يكظمها.
من دون جدوى.
ها هي تتجلّى في الحديث على شكل بروز غير مقصود لهذه العروق التي اعتادت الاختباء خلف العنق، وهذا الغضب الجميل الذي يستقر على الوجه الذي يتعلّق بكل جوارحه بالابتسامة الساكنة.
ودفاتر الرسم تفتح لي باب أسرارها، تروي لي حكايات المدن والعاصمة التي يجلس هذا الشاب لساعات طويلة في مُختلف فسحاتها. يخفي غليانه الداخلي.
...ويرسم.
لكلّ واحد منّا وسيلته ليُعالج نفسه من شياطينه الداخليّة.
وأحياناً، عندما يُحالفنا الحظ، تنصهر شياطيننا بشياطين المدينة، فيُصبح للقصة المُتجسّدة بالرسوم أبعاد تراجيديّة تليق بهذا المُحترف الذي يُشرف على حكايات العشّاق، التي وإن لم يعيشوها كاملة، هي أيضاً قصص حُب.