القطة تعرف أكثر من اللزوم، وإن كانت في الواقع تطلّ من خلال طلاء الأكريليك الذي ينساب على الكتان بطريقة قاتمة بعض الشيء، وكأنّ الأسرار تنزلق هُناك في الخلفيّة فوق الأوراق الميتة التي لا مكان لها في اللوحة!
ولكن الفنان، عادةً، يسمح لزائر عوالمه الداخليّة بأن يزوّد العمل بومضات من قصصه الشخصيّة.
فبهذه الطريقة، تُصبح العلاقة أكثر حميميّة.
القطة بتعابيرها التي تغمز إلى الحكمة المُستترة، "تغلّ" بالسيدة التي تحضنها بإحكام بيد واحدة؛ اليد الثانية تتمسّك بشيء ضبابيّ الطلّة.
واليد تجد طريقها دائماً في حكايات الفنّان الأنيق إدغار مازجي الذي ينطلق في رحلته مع الكانفا من دون أن تقوده الأفكار المُسبقة. يسمح لفرشاة الرّسم، التي تعكس لمسات من شخصيته المُتأرجحة بين الجديّة والروح المرحة الهادئة، بأن تُعبّر عن انفعالاتها في اللحظة.
إدغار مازجي يُريد أن يعرف كيف يُمكن لسلسلة مُتتالية من ضربات فرشاة الرسم أن تنقل التجارب الحاليّة والماضية والمشاعر الداخلية. ولِمَ لا؟ الحالة الذهنية التي تسكننا تتبدّل بين طرفة عين وأخرى.
والقطة تعرف أكثر من اللزوم.
يمزج بين الأحاسيس والانفعالات التي تشنّها اللوحة التصويريّة حروباً صغيرة غالباً ما تكون مُسالمة! ويُضيف عليها العبارات الفنيّة التي تنبثق من الفنّ التجريدي التلقائيّ. هو بكلّ تأكيد يُريد أن يُعزّز من سلطة الرسم وقدرته على التعبير عن أكثر الأحاسيس عمقاً. ولكنه يُعالج مختلف الأفكار بطريقة سلسة غير مُباشرة، تحتاج إلى بعض المُراقبة والتحليل لنفهم لغتها.
اختار لنا لوحة The Cat Who Knew Too Much ليُحدّثنا قليلاً عن سطورها الأولى لأنه أنجزها حديثاً، وهي تُجسّد - بحسب ما يؤكد لنا - ملامح أعماله العريضة.
ولطالما كان مُحترفه القائم في داخل شقّته البيروتيّة الجميلة الملاذ الذي يلجأ إليه باستمرار، وليس فقط اليوم، في ظلّ كلّ ما يعيشه البلد من لحظات عصيبة يصعب فهمها وتشريحها. لا يدخله فقط ليرسم أو ليتشاجر فيتصالح مُجدّداً مع اللوحة، بل يشرب فيه القهوة، ويقرأ، ويدخّن السجائر؛ وليُحدّق أيضاً مطوّلاً في الأعمال التي لم ينتهِ منها بعدُ. تلك اللوحات التي ما زال يعيش قصّته معها.
لا نعرف ما إذا كانت أعماله تنقل ذكرياته الشخصيّة. فبعد عام من التواصل معه وزيارته في مُحترفه الذي يصفه بالفوضويّ وغير المرتّب، لا نعرف الكثير عن هذا الفنان الأنيق. يضحك مُعلّقاً، "أنت لا تشاهدين عادةً الفوضى في المحترف عندما تزورينني لنحتسي القهوة، لأنني أرتّبه سريعاً قبل وصولك!".
لا يسمح لأحد بأن ينظّف هذه الفسحة التي يلجأ إلى حميميّتها في كل الأوقات. يعرف جيّداً أين يجد كلّ ما يبحث عنه، وإن كانت الفوضى سيّدة الموقف.
يستمع إلى الموسيقى عندما يقف أمام الكانفا. ولكنه يحتاج أحياناً إلى الصمت المُطلق ليعرف كيف سيُنجز العمل. وثمّة نوع آخر من الصمت يستقرّ في داخله عندما يُدرك أن هذه ستكون ضربة فرشاة الرسم الأخيرة، وأن اللوحة انتهت من التعبير عن مكنونات روحها. صمت داخليّ يُهدهد حنايا إدغار مازجي بشخصيّته التي تتأرجح بين الجديّة وروح الفكاهة الهادئة. لا يستطيع أن يرسم إلا إذا كان بمفرده. يحتاج إلى هذا الفراغ الذي هو في الواقع أبعد ما يُمكن عن العزلة ليقود حروبه الصغيرة مع ضربات فرشاة الرسم المُتتالية.
تجتاحه حيويّة كبيرة عندما يبدأ العمل، وبعض قلق عندما يُنجز اللوحات الكبيرة الحجم. ولكن الثقة في النفس تستقرّ مُجدّداً في داخله عندما يستقرّ الحوار بينه وبين فرشاة الرسم. لحظات من "النضال"، ولحظات من النعيم، والكثير من التأمّل. وتمرّ السّاعات أحياناً قبل أن يعود إدغار فجأة إلى الواقع، وكأنه يقود سيارته منذ ساعات من دون أن ينتبه، ليصل فجأة إلى المكان المقصود "بلا ما يعرف كيف".
وحدها القطّة قد تعرف ماذا حصل خلال الرحلة!