النهار

بقايا بيروت: الكُتب المُستعملة تُعيد القارئ إلى الجنون الأدبيّ في الشارع المنسيّ
هنادي الديري
المصدر: "النهار"
بقايا بيروت: الكُتب المُستعملة تُعيد القارئ إلى الجنون الأدبيّ في الشارع المنسيّ
لقطة عامة للمكتبة.
A+   A-
الشارع مُثقل ببعض ما حصل معنا في الطريق، ورائحة الخيبات تحوم بتكاسل فوق مروجنا الداخليّة. وحده الكتاب، هذا النديم الذي نادراً ما يخون، يحضننا وينقلنا إلى عروشه المنحوتة بشكل زخرفيّ، والعاصمة الجريحة ترمي رأسها إلى الخلف وتضحك. تتواطأ مع الأبطال الذين يُبرعمون بين دفّتي الكتاب.
هل ذكرنا أنه نادراً ما يخون الالتزام غير المُعلن عنه بيننا وبين المؤلف؟
 
كان بإمكاننا، هذا المساء أن نبكي قدرنا، لكن هذا من شأنه أن يكون مثالاً للجحود، أليس كذلك؟ فلنتوكّل على أبطال الكُتب، إذاً، ليُهدهدوا انكسارنا، نحن الذين لم نعد نعرف كيف تبدو قصص حُبّنا، ولهذا السبب توكّلنا على أبطال الكُتب ليعيشونها نيابةً عنّا.
نُزهة طويلة "هادفة"، نعيش قصّتنا لما يُقارب الساعتين في شارع الحمراء التاريخيّ. نبحث في الشوارع المُتفرّعة منه عن ومضات هاربة من الأمل، ونتعلّق بطيف الذكريات، نحن الذين لم نعد نعرف كيف تبدو قُصص حبّنا.
  
وها هو الكتاب يُنادي أرواحنا التائهة، هُناك، "عند هالزاوية" في شارع أنطون الجميل، الذي يُعرف أيضاً بـ "شارع رقم 58". قهوتنا المسائيّة "المرّة متل هالإيام"، نحتسيها في مكتبة اسمها ببساطة: "كتابي" يملكها إياد خبازة الذي يُقدّم للقارئ النهم من خلال مُختلف المنشورات، فرصة شراء كلّ ما يشتهيه جنونه الأدبيّ بأسعار زهيدة، في وقت بات اقتناء الكُتب من الكماليّات غير المُتاحة للجميع. نتبادل الأحاديث معه ومع "جولييت"، عاشقة الكُتب التي تُساعد إياد في إدارة هذا الملاذ المؤلف من طبقتين. وبطبيعة الحال، فإنّ الطبقة العليا مُخصّصة للقارئ الذي يُريد أن "يختلي" بأبطال هذا الكتاب أو ذاك، فلا يتعرّض لمُضايقات "يُتقنها" الواقع و"يتفنّن" بها جيداً.
 
وإذا كان إياد خبازة اليوم، يخوض مُغامرة غير مضمونة بطلها الكتاب، فإنّ بداياته المهنيّة كانت مع التُحف القديمة، وهو شغف تتوارثه عائلته، وامتلك جدّه رخصة في المُتاجرة في الآثار. درس ابن بيروت تاريخ الفنّ وشارك في الـFamily Business، قبل أن يختاره الكتاب الناطق الرسميّ باسم جنونه.
وفي الرابع من آب من تلك السنة، خسر وشريكه المحلّ الذي امتلكاه مُقابل المرفأ ودُمّر بالكامل بما يحتويه من تحف ثمينة ونادرة. لم يستسلم لخُطط القدر "سيّئة النيّة"، إذ عاش الحرب الأهليّة كاملةً، ويرى أنّ من عاش تجربة مُماثلة وبقي على قيد الحياة، يستطيع أن يتغلّب على أيّ شيء.
وفي ما يتعلّق بالكتاب، فإنّ توغّله في تاريخ الفنّ، بحسب ما يروي بين رشفة وأخرى من القهوة المسائيّة اللذيذة، ولّد في داخله "الكثير من الفضول لمعرفة الكثير ثمّ الكثير عن كلّ ما يتعلّق بهذا العالم الغنيّ". ووحده الكتاب يستطيع أن يروي فصول الفنّ المُتنوّعة وزواياه المُتشعّبة بأسلوب شائق يتخلله الكثير من "السهل المُمتنع".
 
ومن هذا المنطلق، استدرجه الكتاب إلى حدائقه السريّة، فإذا بمكتبته الشخصيّة في المنزل تكبر يوماً فآخر، وتتحوّل مع مرور الأيام إلى ما يُشبه الأرشيف الذي يجد فيه كلّ المعلومات التي قد تُربك فضوله وتستفزّه.
والمُصادفة قادته إلى اقتناء مكتبة "بأمّها وأبوها"، يتقاسم من خلالها اليوم في شارع الحمراء التاريخيّ، عشقه للمعرفة مع أيّ قارئ نهم قد يخطر على باله زيارة مشاهد عابرة مكتوبة بأكثر من أسلوب، لعلّه ينجح في التغلّب على خيباته المُتكرّرة.
 
 
وإذا كانت مكتبة "كتابي" اليوم جزءاً محوريّاً من شارع أنطون الجميل، فإنّ البداية كانت في الشارع المُلاصق الذي يحمل اسم "مهاتما غاندي" وأحبّه كثيراً. ففي هذا الشارع كان لأبي محلّ لبيع التُحف القديمة قبل أن تقتحم الحرب حياتنا، وتتمّ سرقته أكثر من مرّة، ما أجبر الوالد على الانتقال إلى مبنى (البافييون)". وبقي المحلّ القديم حيّاً في ذكريات إياد. وأراد بأيّ ثمن أن يجد فُسحة في شارع "مهاتما غاندي" يعود من خلالها إلى الزمن الجميل الذي شارك في كتابته مع والده، و"وجدت ما أبحث عنه ما ان خرجنا من حصار (الكورونا) والحجر المنزلي". وكان قراره حاسماً في أن يكون الكتاب صلة الوصل بينه وبين الشارع التاريخي الذي يُحاول اليوم استعادة بعض من أمجاده في ظلّ الظروف الراهنة التي يعشها البلد.
"فأنا من سكان ساقية الجنزير وترعرعت في أجواء مُختلطة وجدتها مجدّداً في شارع الحمراء". ولاقت المكتبة التي أنشأتها بداية في شارع "مهاتما غاندي" الكثير من الإقبال، لاسيّما وإنّ إياد أصرّ على بيع الكُتب بأسعار رخيصة وفي متناول الجميع.
وصحيح أنّ "لعبة الدولار" أجبرت الكثيرين (إن لم نقل الأكثريّة) على التخلّي عن مُتعة القراءة، بيد أنّ إياد ما زال مُتمسّكاً بمبدأ "القراءة للجميع" ومن هذا المُنطلق، ما زال يُقدّم الكتاب بأسعار رمزيّة وبـ "اللبناني"، ليشعر من انقلب عليه الزمن بأنه ما زال في مقدوره أن ينخرط في دورة الحياة "الطبيعيّة" من خلال هذه الكُتب المُستعملة.
وفي مقرّها الجديد في شارع أنطون الجميل حيث استقرّت منذ ما يُقارب الشهر، ما زالت المكتبة تحتفظ بنجاحها، وما يُفرح إياد "أن الكتاب عم يبرم من بلد لبلد ومن منزل في البلد إلى آخر".
 
ولأنّ إياد يعشق قيادة السيّارة واكتشاف الأماكن، يقول بفخر في سياق الحديث، "أنا بارم كل لبنان. وجودي في الحمرا لا يعني أنني لا أعرف المناطق الأخرى. لبنان، بعرفو زاوية بزاوية". وأحياناً، خلال هذه المغامرات "الداخليّة" التي يقوم بها، يُصادف قرّاء وهواة يُريدون بيع كُتبهم المُستعملة.
ويؤكّد إياد وجولييت أنّ القارئ الحقيقيّ لا يستطيع أن يغوص في الروايات افتراضياً، بل يحتاج أن يمسك الكتاب بين يديه على عكس القارئ الذي يبحث عن المعرفة والمعلومات، و"هذا الأخير لا يُمانع في الاستعاضة عن الكتاب بالمُتابعة أونلاين". يُعلّق قائلاً، "لم نفقد أبداً عشق الكتاب كما يزعم كُثر. ما زال الكتاب حاجة مُلحّة للعديد من الناس".
أمّا جولييت، فتعيش الشغف الحقيقي مع الكتاب وتجد مُتعة حقيقيّة في تلخيص هذه الرواية أم هذه المنشورات مع قارئ أو آخر، وتؤكّد لنا بأنّ الأدب الروسي لم يفقد يوماً رونق اللقاء الأول مع أيّ شخص يُريد أن يتوغّل في الإنسان وجنونه الداخلي ومعاركه النفسيّة الضارية مع ذاته والعالم الخارجي، "وهذا النوع من الأدب يجذب الشباب كثيراً".
والكُتب المُستعملة بحسب هذه الشابة الشغوفة، "تحتوي على الكثير من الحنين، وغبار الماضي يُسيّجها، ما يُعزّز جمالها. بعض الكُتب يحتوي على آثار واضحة من المالك القديم، قد تتجسّد بفقرة تمّ تسليط الضوء عليها بواسطة قلم، أم بعض الخواطر المدوّنة بخطّ اليد. هي تفاصيل تضيف الرونق على الكتاب ولا تُقلّل من قيمته إطلاقاً".
لتُنهي قائلة بأنّ الكتاب، ما ان ينتقل من شخص إلى آخر، لا يعود مُلكاً للكاتب، بل تنصهر قصته بقصص القارئ الصغيرة التي يضيفها على الصفحات بطريقة أو أخرى. "كلّ كتاب يروي قصّة مُستترة خلف القصّة التي وُضعت في الواجهة".
 
ربما بقي طيفها بين صفحة وأخرى وتنهيدة أمل وأخرى.
 
 
 
الكلمات الدالة

اقرأ في النهار Premium