النهار

نزهة في قرانا المنسيّة لملء حقيبة الذكريات
هنادي الديري
المصدر: "النهار"
نزهة في قرانا المنسيّة لملء حقيبة الذكريات
من النزهة.
A+   A-
يوم عادي، وغالباً ما يتحوّل الغرباء الذين يتقاسمون رحلة اكتشاف القُرى المنسيّة في بلد كُتبت له الانقلابات المصيريّة المُتتالية، إلى أصدقاء يتشاطرون بعض أسرار، ولحظات عابرة من الضعف الجميل. 
 
يوم طويل نتنقل فيه في باص مُجهّز تماماً، تطلّ نوافذه على كل الجمال الذي نسيناه عن بلدنا المُنهمك في حروبه الصغيرة. 
 
 
غُرباء من مُختلف الجنسيّات يُريدون أن يعيشوا القُرى النائية بكل طقوسها، بحثاً عن لحظات عابرة من الفرح، أو من حياة لم يبقَ منها الكثير. 
 
يتذوّقون المأكولات التي تتخصّص بها قرية وأخرى، يحتسون الليموناضة "عند هالجماعة"، ويتناولون الفطور في منزل تلك العائلة التي تُقرّبهم بضع خطوات من الطبيعة ونزواتها.
 
 
يزورون القُرى وبعض عائلاتها التي تُقدّم مُنتجات محليّة، وتُعطي أبعاداً جديدة لكل ما نُطلق عليه لقب "شغل بيت".
فنجان قهوة "على الحطب"، و"بيض بلدي" طازج، انتقل مُباشرة من قنّ الدجاج إلى الطاولة الفاخرة بمشهّياتها العضويّة وأحاديثها الانتقائية التي قد تأتي على شكل "أحاول أن أصبح روائيّة مُستقلة أتخصّص بالسير الذاتية" أو "يقطع الحُب شو بيذلّ، هي تالت رسالة ببعتلو ياها وبعد ما ردّ على الواتس أب".

غُرباء سُرعان ما يتحوّلون، خلال اليوم الطويل، إلى أفراد عائلة يتشاركون "اللقمة"، المُقبّلات والوجبات الخفيفة والأخرى الدسمة التي توصلنا إلى الشعور بالتخمة "المُريحة" بسرعة البرق.
 
 
وروائح القصص الحميمة الفاتحة للشهيّة قد تظهر فجأة في الأحاديث الجانبيّة التي تنساب بتهذيب وتحفّظ في الدقائق القليلة الأولى، ولكنها تتفتّح وردة جريحة مذبوحة مع تقدّم النهار.
 
فإذا بالمُغامرات السياحيّة تنصهر مع الاعترافات "الخطيرة" التي تأخذ شكل "مش ضيعانو هالبلد ما حدن عارف قيمتو"؟ (تُرافقها نظرة شاعريّة نحو الأفق)، أو اكتشافات "مُستنيرة" تُترجمها اللغة العربيّة العاميّة كالتالي، "أنا صرت بالشق التاني والأخير من حياتي ولازم كل شي يتغيّر".
 
 
إلى الجنوب، وتحديداً إلى قرية العباسيّة (وهي إحدى قرى قضاء صور)، بدعوة من مُؤلفة كُتب الطبخ، المُصوّرة ورئيسة مُنظمة Slow Food Beirut غير الحكوميّة التي تدعم الإنتاج الزراعي المحلّي وتحمي الهويّة الغذائيّة المحليّة، بربرا عبديني مسعد، ووكالة سفريات Tourleb التي تُروّج للسياحة المحليّة وتدعم الحرف اليدويّة في بلدنا الحبيب (تملكها ندى رافاييل وجويل صفير).
 
المطلوب من العشرات الذين قادهم الفضول وحُب الاكتشاف أن يفتحوا قلوبهم وعقولهم للتعرّف من كثب إلى العادات والتقاليد التي لا تُشبه كل ما ترعرعوا عليه، وللوقوف وجهاً لوجه مع أشخاص من خلفيات مُختلفة.
 
أمّا الانغماس في التأمّل، فهو مسموح في كل الأوقات، بين لقمة من مربّى التفاح و"كدشة" من كبيس الحرّ، ولمَ لا أثناء التقاط عشرات الصور لهذا المشهد لإسقاطها لاحقاً على مواقع التواصل الاجتماعي، أو للاحتفاظ بها في صندوق الذكريات الحميم، "لأنو أنا ما بحب حدن يعرف وين بروح وبجي"!
 
 
بربرا عبديني مسعد تروي لي بين زيارة وأخرى خلال النهار الطويل، أنها أرادت منذ فترة طويلة أن تقوم بهذه الخطوة التي نتعرّف فيها إلى اليوميّات القرويّة التي تتداخل فيها المأكولات التقليديّة والزراعة المحليّة بقصص هؤلاء الذين لا نعرف عنهم أي شيء باستثناء أننا نتقاسم البلد عينه.
 
ووجدت الشريك المُناسب مع وكالة Tour Leb حيث تترافق السياحة الداخليّة مع عشق الطعام الذي تمتزج فيه المكوّنات مع النوادر الصغيرة التي تصنع حياة كبيرة. "ندى وجويل Are Two Amazing women! توظفان الكثير من الجهد في كل ما تقومان به في حقل السياحة الداخليّة بهدف إظهار أجمل ما في لبنان. وأنا شخصياً أحاول أن أقوم بالشيء عينه من خلال كُتبي حيث أسلّط الضوء على المأكولات اللبنانيّة التي تتداخل في كل عناصرها ومكوّناتها حكاياتنا جميعاً، وحكايات كل قروي يُترجم عشقه لعائلته من خلال المطبخ".
 
بربرا الحالمة التي تهتم بعشرات القطط والكلاب الشاردة، تُحاول جاهدة، على طريقتها، أن تبني ملاذاً آمناً يحضنها وعائلتها وكل من يرغب في أن يعيش لحظات هاربة من الحياة "الطبيعيّة" في ظلّ كل ما نعيشه من جنون ورعب فوضوي.
 
 
وندى رافاييل المرحة والشغوفة تتحوّل صديقة لكل هؤلاء الغرباء الذين يتقاسمون الأنفاس وروائح ذكرياتهم خلال النهار الطويل.
 
تُريدنا أن نشعر جميعاً بأننا ننتمي، وإن كنا في الواقع نعيش غربة حقيقيّة مُستمرّة منذ وقت لا يُستهان به.
تُعلّق بربرا، "هي فُسحة صغيرة نتنفس من خلالها. نُزهة يُسمح لنا خلالها بأن نشعر بالأمان".
 
ولأن بربرا أرادت منذ الانتقال من الولايات المتحدة في سن الـ18 حيث ترعرعت، إلى البلد، أن تخلق "لبنانها، My Lebanon"، حيث يجتمع كل لبناني أصيل، كل قروي وكل فلاح، وكل شخص يصف نفسه بالعادي، "يعني مش قصّة كبيرة"، ويعمل جاهداً لتأمين لقمة اليوم لعائلته وهو في الواقع من يجعل لبنان أكثر جمالاً. واختارت التعاون مع TourLeb التي تعيش لبنان الحقيقي منذ أكثر من 16 عاماً، "لأنني شعرت بأنني أستطيع أن أتقاسم مع ندى وجويل أحلامي للبنان. وها هي تتحقق. أقول لهما على سبيل المثال: أريد هذا النهار أن يتمحور حول الزعتر أو بتلات الورد أو مربّى الفلفل الأحمر وننطلق بعدها للتطبيق ولرسم المسار الأفضل والأكثر تشويقاً للرحلة المُقررة".
 
 
ولأن بربرا تعيش لبنان بكل مناطقه وقُراه وزواريبه المنسيّة، منذ سنوات طويلة، لتفهم من جهة أصول المطبخ في هذه القرية وتلك، ولتعيش ساعات طويلة مع القرويين والفلاحين والمزارعين الذين ما زالوا يعيشون قصة افتتان مع الأرض والتقاليد والأصول، كان اللقاء مع ندى وجويل أشبه بقصّة رومنطيقيّة ترتكز على سرد القصص بأساليب مُختلفة. 
 
"وقد حان الوقت لنضع هذه المغامرات في تصرّف اللبناني الذي يعيش في البلد ولكنه لا يعرفه في الواقع، ومع اللبناني الذي يعيش الغربة رحلته الداخليّة اليوميّة ويُريد بأي ثمن أن يتعلّق بكل شبر من لبنان ليأخذه معه لاحقاً في حقيبة الذكريات. وأيضاً مع الأجانب الذين يعملون في البلد وقد فهموا منذ وصولهم أنه بلد التناقضات الساحرة تماماً كالبدايات".
 
الرحلة الواحدة تتضمّن عشرات الزيارات الصغيرة ضمن الزيارة الكبيرة المُقررة سلفاً. 
 
 
وتشتمل على اكتشافات "مطبخيّة" وأخرى لها علاقة بالخلق والإبداع المحلي على أنواعه، وعلى الزراعة والمنتجات المحليّة التي تنفرد بها قرية وأخرى. أضف إلى البرنامج المُقرر مفاجآت فرحة تماماً كشخصيّة ندى رافاييل التي لا تهدأ طوال النهار وتدعم كل شروحاتها بضحكات غير مكبوحة. ندخل منازل لبنانيّة مهجورة حافظت على هويتها وإن كانت مُسيّجة بالذكريات، ونستمع إلى هذه المزارعة التي تؤكد لنا "أن الطبيعة تُعالج نفسها بنفسها، ونادراً ما تحتاج إلى تدخل الإنسان وغروره. فيمكن إذا هبّ الهوا وترنّحت هالشجرة وانقام منها شي عنصر، ما بينخاف عليها. مش بركة هيّي كان بدّها حيللا قوة تشيلو عنها؟".
 
و"نتثقف" حين تؤكد لنا ندى أن المنزل اللبناني النموذجي، لم "يظهر" إلا في القرن الـ17 عندما جلب الأمير فخر الدين الثاني معه من إيطاليا القرميد الأحمر بعدما جرت العادة أن يتكوّن سقف المنزل من التبن.
 
نُشارك في إعداد بعض المأكولات "عند هالحجة"، ونكتب وصفة هذه الطبخة أو تلك لنطبّقها لاحقاً. ننغمس في ذكرياتنا التي تُفاجئنا "ع غفلة"، وتقتحم كياننا فيما نمشي الهوينى في القُرى المنسيّة، و"نمسح عرقنا" من جراء هذه "الطلعة ياللي ما كانت تعرف تخلص".
وبين زيارة وأخرى، ولقمة و"شي عشرة غيرها"، نقترب أكثر من هؤلاء الغرباء الذين نتقاسم معهم الأنفاس وروائح الذكريات. تولد صداقات، و"منفضفض لبعضنا"، ونعيش لحظات هاربة من حياة لم يبق لنا منها سوى اسمها.
 
 





اقرأ في النهار Premium