في اليوم العالمي للمرأة، نكسر الصمت المخزي والغبن الفاحش بحق السيدة بديعة صبرا حداد (1923-2009)، المدرّبة المتمرّسة في تقنيات الصوت في الزمن الجميل، والتي أعدّت باحتراف عالٍ قلّ نظيره أجيالاً من المغنّين في الموسيقى الشرقية والغربية، تابعوا دراساتهم في الصفوف النهائية في الكونسرفاتوار الوطني، أو في المعهد الموسيقي في جامعة الكسليك، أو في حصص تدريبية في منزلها الزوجيّ في بدارو، قبل أن يبلغوا الصدارة في الخارج، ويُحقّقوا نتائج مذهلة. وقد كان من هؤلاء المميّزين الباريتون كاربيس بويادجيان، الذي لمع اسمه في حفلات، منها في دار أوبرا متروبوليتان في نيويورك، والسوبرانو سونا غازاريان، والميزو سوبرانو مارو برتاميان في دار أوبرا فيينا في النمسا، والسوبرانو سيلفا بدويان المتنقّلة بين دور الأوبرا في كلّ من نيويورك وفيينا، والتينور رولان غطاس، والسوبرانو جردا إيف غروسوب ذات الغناء المبدع في الأوركسترا السمفونية في نيويورك.
عملت حداد في التمرين على تقنيّات الصوت لكلّ من ماري نقور محفوض، جوليا بطرس، غادة شبير، فؤاد فاضل، رونزا، فاديا طنب الحاج، إدغار عون، الأخت ماري كيروز، جمانة مدوّر، ماري دياب يمين، رندة غصوب وسواهم.
ذكرت السوبرانو سونا غازاريان المقيمة اليوم في مدينة النمسا، في اتصال مع "النهار"، أنها "ترسم إشارة الصليب، وتذكر السيّدة بديعة حداد قبل دخولها إلى أيّ حفلة أوبرالية، منذ انطلاقها في عالم المهنة، التي تعود إلى أعوام طويلة"، مشيرة إلى أنّه "لولا الحصص التدريبية للتقنيات الصوتيّة معها لما تمكّنت من الغناء الأوبرالي في كبريات دور الأوبرا، لاسيما في دار "لا سكالا" الشهيرة في ميلانو، أو حتى في كلّ من دار الأوبرا في نيويورك وفيينا، والعالم كله...".
كيف حصلنا على معلومات عن السيدة بديعة صبرا حداد؟
في الحقيقة، شاءت الصدف – وما أجملها! - أن يتابع بعض أفراد آل مسك، وهم أنسباء السيدة أديل مسك، زوجة الراحل الكبير وديع صبرا، وقائع حوار عبر إحدى الإذاعات الفرنسية للسيدة زينة صالح كيالي، حيث تحدّثت عن مؤلّفات أصدرتها عن سلسلة وجوه موسيقيّة لبنانية عالمية صادرة عن دار "غوتنر" الفرنسية، مع توقها للحصول على معلومات عن الكبير المنسي وديع صبرا، الذي وفّرته لها العائلة المذكورة بعد هذا الحوار.
انقسم العمل بين تأليفها "بيوغرافيا" عن صبرا من جهة، وإسنادها القراءة الموسيقيّة لأعماله للباريتون فادي جنبرت، الذي حاول التقصّي عن أيّ معلومات عن ابنته بالتبنّي بديعة صبرا (الأشقر قبل التبنّي) المتأهلة من السيد ميشال حداد، وهو تربوي، عمل مسؤولاً عن الامتحانات الرسمية في وزارة التربية...
شاء القدر أن يتجاوب السيد بسام حداد (ابن شقيق السيد ميشال حداد) مع رغبة جنبرت في اكتشاف عالم بديعة حداد من خلال تسليمه أرشيفها الغنيّ، الذي حرص على حفظه مع شقيقه زياد وأخته رندة...
موهبة نحو الاحتراف
من هي بديعة الأشقر صبرا حداد؟
ذكرت كيالي لـ"النهار" أنها استشفت من "بيوغرافيا" وديع صبرا وجود رواية مزدوجة. ذكر البعض أنّها جاءت إلى هذا المنزل كمدبّرة منزل وهي في الـ14 ربيعاً، مع تمرّسها على غفلة بالغناء والعزف على البيانو، بعد متابعتها تلامذة الأستاذ وديع صبرا".
"أما السيناريو الآخر،" وفقاً لها،"فيعتمد مقاربة أخرى مفادها أنها كانت تلازم المنزل لمتابعة دروس الكونسرفاتوار، التي كانت في المكان نفسه...".
بالنسبة للباريتون فادي جنبرت، الذي ينكبّ اليوم على تنظيم أرشيف السيدة بديعة حداد بجهد ملحوظ واحتراف عالٍ، فقد ذكر لـ"النهار" أنها "من مواليد 1923 في قرنايل، وتنتمي إلى آل الأشقر، من عائلة مؤلّفة من 12 ولداً، وقد اختارتها العائلة لتكون مدبّرة منزل عند وديع صبرا وزوجته آديل مسك".
بعد اكتشافه موهبتها الغنائية، قرّر صبرا إدخالها إلى المدرسة الإنجيليّة في لبنان. تابعت في شهادة خاصّة دوّنتها على ورقة مكتوبة على آلة دكتيلو أنّها في عام 1953، قدّم تلامذتها حفلة غنائيّة، فحصلت في عقبها على منحة لقضاء أربعة أشهر في معهد البندقية الموسيقى...وحازت على امتيازين فخريّين، إضافة إلى توجّهها ثانية إلى إيطاليا في عام 1954 على نفقتها الخاصة لدراسة الغناء الأوبرالي في مسرح السكالا في ميلانو...
صوت الأصوات
قدّمت السيدة بديعة أكثر من 20 حفلة غنائية، وهي - وفقاً لما ذكرته مجلة الصياد في 1 آذار 1944 - "... من أجمل اكتشافات الموسيقيّ الكبير وديع صبرا، الذي خصّها بتلحين ثلاث مقطوعات موسيقيّة؛ الأولى بعنوان "ذكرى الأم" من كلمات الشاعر الكبير شبلي ملاط، الثانية بعنوان "أمّنا الأرض" من كلمات الكبير "رشدي المعلوف"، والثالثة بعنوان "ماذا؟ انتهىَ كُلُّ شَيّ؟" للكبير سعيد عقل...".
عاشت السيدة بديعة حداد أمومتها مع تلامذتها بعد أن حرمتها ظروفُها الإنجابَ من زوجها ميشال حداد... ونحن نستعيد من أرشيفها ما ذكرته الفنّانة القديرة رونزا، إحدى تلميذاتها، أنها "امرأة لديها شغف التعليم... تمدحنا عند الضرورة، وتنتقدنا عندما لا نكون عند المستوى الذي تريده لنا...".
أما المغنية المميزة غادة غانم فقد نقلت وفقاً لأرشيف قصاصات الصحف أنّه كلّما تعذّر "عليّ الوصول إلى الكونسرفاتوار، كانت تعطيني الدرس في بيتها، وتطلب إليّ المجيء بين الثالثة والرابعة بعد الظهر، الوقت الذي يغفو فيه القنّاص".
ذكرت المدرّبة على تقنيات الصوت الغنية عن التعريف ماري نقور محفوض لـ"النهار" أنها "شخصية استثنائية لا تتكرّر. عشت معها في منزلها في بدارو، وفي غوسطا، خلال الصيف، مرحلة صقل صوتها وإتقان تقنية الصوت، مع امرأة كانت المعلّمة والمربّية والأم والملهمة...".
أما الفنانة القديرة جداً غادة شبير فقد ذكرت لـ"النهار" أنها تابعت حصصاً تدريبية في المعهد الموسيقي في جامعة الكسليك لصوتها العريض، حيث خلقت مزيجاً بين الطبقة الصوتية العريضة والطبقة الصوتية المنخفضة.
أما المهندس المعماري ناجي أبو سمرا فقد اختصر في اتصال مع "النهار" فضل السيدة بديعة حداد بالقول: " هي معلّمتي في الغناء، وملهمة لي بالغناء، من خلال متابعتي لتقنيات الصوت معها في كلّ من جامعة الكسليك ومنزلها في بدارو".
تكريمها واجب
طالبت مغنية الأوبرا القديرة جداً فاديا طنب الحاج، وهي تلميذتها، في اتصال مع "النهار"، أن تُكرّم السيدة بديعة صبرا عبر تخصيص قاعة باسمها في مبنى الكونسرفاتوار الجديد في ضبيّة".
طالبت الحاج بتكريم السيدة بديعة حداد، وهذا ما قد يكون رغبة تلاميذها كلهم من دون استثناء، مع العلم أنّها مُنحت وعازف البيانو القدير جداً إسطفان إميان في عام 1986 وسام الاستحقاق اللبناني في عهد رئيس الجمهورية السابق أمين الجميل في حفل رسميّ في المعهد الموسيقيّ في جامعة الروح القدس.
[email protected]
Twitter:@rosettefadel