ليل برلين باحتفالاتها الثقافيّة المُتقنة والمُذهلة - لِمَ لا الصَّارخة في بعض لحظات؟! - طويلٌ.
وليل بيروت المُتأرجحة بين آمالٍ تائهةٍ وواقعٍ محتومٍ - لا وقت يُضيّعه في الزحمة - أطول.
الحديث بين العاصمتين يرتكز على أحلام دُفنت، وأخرى اتّخذت شكل الفنّ لتتعافى روحها.
واللوحة الزيتيّة، التي اختار الفنان السوري الشاب كميران خليل (مواليد حلب العام 1986) أن يُحدّثنا عنها هذا المساء، تحمل عنوان "انعكاس". الحديث يأخذ أكثر من اتجاه على اعتبار أنّ ليل برلين طويل، وليل بيروت أطول. برلين غائرة في صخبها الإبداعي، وبيروت تتخبّط بين جدران الظلم. ثمة أحلام رحلت، وأخرى دُفنت قسراً حتى إشعارٍ آخر.
ولا شيء يُقصِّر المسافات بين ما نصفه بالحريّة وقفص الجنون، الذي يُسيّج يوميّاتنا، أكثر من الأحاديث الجميلة التي تُولد "ع غفلة". تنطلق من الفن، هذا الصديق الذي يواسي وحدتنا التي لم نعد نعرف كيف نهجرها، لتنساب بهدوء وبلا رسميّات مُبالغة في قواعد السلوك الاجتماعي، في اتّجاه كتاب الغربة ووحشتها، وقصيدة بيروت وجموحها الذي يتعذّر القتل اليوميّ الذي نتعرّض له أن يُسيء إلى شراريب ثوبها.
كميران قليل الكلام، ومع ذلك يستمرّ الحديث لما يُقارب السّاعة. وقع في حُب بيروت، ويُريد بأيّ ثمن أن يعيش فيها لفترة، ليتوغّل في جنونها الثقافي الانتقائي الذي لا نجده في عواصم أخرى، وإن سحرتنا في لحظات افتتان عابرة.
اللقاء الأول مع هذا الفنان الهادئ، وصاحب الملاحظة الحادّة، كان خلال الصيف المُنصرم في غاليري Mission Art الأنيقة لغياث المشنوق وتوفيق الزين. آنذاك ترنّح الحديث الذي كان من المُفترض أن يرتكز على أعماله الشاهقة التي تُحاكي الوهم وكلّ ما يُصيبنا من جرّائه في أكثر من اتّجاه، نظراً إلى ملاحظات الشاب الحادّة، وقدرته على مُراقبة كلّ ما يجري من حوله وتحليله بسكون.
وليل برلين البارد، شتاءً، وإن كان يضجّ بحرارة الإبداع، طويلٌ.
وليل بيروت، في كلّ الفصول، لا ينتهي. تتداخل فيه بعض مقاطع من تاريخ "شغلتو وعملتو" أن يقرع الباب مراراً وتكراراً، ونحن لا نتعلّم. نفتح له الباب على مصراعيه، ولا نتعلّم.
وكميران خليل لم ينتهِ بعدُ من مُعالجة الوهم. لم يشبع من سائله الذهبيّ.
ومنذ العام 2017، يقطن الفنّان مع الوهم ليُشرّحه وليفهم أبعاده. وهذا العام، اتّضحت الفكرة أكثر في ذهنه؛ بات الوهم أكثر شفافيّة.
ولوحة "انعكاس"، التي اختارها لنا من برلين حيث يعيش حالياً، تنتمي إلى موضوع الوهم الذي يُحاول كميران أن يحلّ "شيفرته" منذ سنوات لا يُستهان بها. أضف إليه العزلة التي ربما وُلدت منها بدايات، ولكنها خطيرة بحضورها المهيب. ووسط هذا الواقع الهشّ وغير المُريح الذي نعيشه قدراً، غالباً ما نُحاول - بحسب كميران - أن نجد التوازن. وهذا الشخص الغريب وغير المُريح بحضوره في داخل اللوحة لجأ - وفق ما يشرح كميران - إلى العزلة مع الذات. هي حالة قد تُصيبنا جميعاً. هذه العزلة قد تُعيد إلينا التوازن الذي نحن بأمس الحاجة إليه، و"يُمكن أن يتماهى الإنسان عندئذٍ ويندمج مع هذا العالم". من هذا المُنطلق قد تكون العزلة حاجة مُلحّة أحياناً، و"هذا الشحص المائل أو الذي ينحني في داخل اللوحة نحو الذات - إذا صحّ التعبير - هو في الواقع يعيش نوعاً من الارتكاز على النّفس". هذا الشخص يسند نفسه، يسند رأسه، إلى المرآة، التي "ظهرت في الحقيقة من العدم".
يظهر في المرآة وجهُ هذا الشخص الذي يعيش، تماماً مثلنا، عزلةً يُحاول من خلالها أن يتصالح مع كلّ شيء، وتحديداً مع نفسه.
"وفي اللوحة ما يُشبه السورياليّة. ولأنني أهتمّ بالجوانب النفسيّة للذات البشريّة في أعمالي، أدخل في أغلب الأحيان في عُمق شخوصي لأفهم المجتمعات، والذات، ولأتمكن، تالياً من أن أدخل إلى هذه الشخوص التي في اللوحات. أعيش الحالة تماماً، وكأنني في الواقع أشاطر هذه الشخوص عالمها. ولهذا السبب، يأخذ كلّ عمل فترة زمنيّة طويلة بعض الشيء لأنجزه".
كميران لا يزور اللوحات والشخوص فيها، بل يُصرّ على أن يعيش في داخلها، وأن يتوغّل في حناياها؛ ومن هنا حاجته للوقت. هو بكلّ تأكيد لا يستعجل عمليّة الخلق.
لوحة "انعكاس" تطلّبت منه ما يُقارب الـ4 أشهر ليُنجزها. في المرحلة الأولى، تأخذ الفكرة شكل السكتش الذي يُمكن أن ينجزه بوساطة الفحم، ورويداً رويداً يختزل هذا الشكل ليصل إلى مرحلة ينسجم معه وتروقه إطلالته.
في ما يتعلّق بهذا العمل، كانت الفكرة واضحة نوعاً ما في رأسه.
عندما اقترب من الإنجاز الكلّي للوحة، صارت عمليّة الخلق بطيئة أكثر. وهذا العمل قريب من قلبه، لا سيما أنه يُراقب المجتمعات بدقة، ويُحاول أن يُشرّح العزلة وطقوسها، والوهم وحضوره المهيب.
"كلّ عمل - بطبيعة الحال - إفراغ لمشاهدات الفنّان. هو انعكاس لحالة القلق والمراقبة الثاقبة للأوضاع الحياتيّة في عصرنا الحالي. لا أرسم الأشياء بطريقة مُباشرة بل أرسم تأثيرها على النفس. لا أرسم الشيء بنفسه بل أثره على النفس".
شخوصه في الأعمال الحالية تعيش في داخل الفراغ، الذي يُمكن أن يكون له جانبه الوظيفيّ والجماليّ، ويدفع كلّ من يعيشه على التركيز أكثر على ذاته"، فلا يشتّت النظر عن تفاصيل أخرى قد تكون حاضرة في العمل، بل يغور تماماً في الفراغ المفروض عليه.
هذا الفراغ يسمح لنا بأن نركّز على الشخص وأحاسيسه. لا نلتهي بالتفاصيل الجماليّة والزخرفات، بل نغوص كلياً في المشاعر الإنسانية، تماماً كما حصل في الحديث الذي قصّر ذلك المساء المسافة بين برلين وبيروت.
وليل برلين، شتاءً، طويلٌ.
وليل بيروت، في كلّ الفصول، أطول.