الأعمال ليست مصنوعة لتواسي العين، ولتُهدهد أيّ حياء ظاهريّ قد نختبئ خلفه خوفاً من حركة المرور الكثيفة داخل حلبة مُسيّجة بتهذيب اكتسبناه بفعل خوفنا من تلك الأحاسيس التي تستفزّ وقارنا، وتضعنا وجهاً لوجه مع رغبات مُستترة غالباً ما تستقرّ غصّة في الحلق.
والحديث إلى مدينة ليون الفرنسيّة يُجاور السكون بفعل صوت الفنانة الشابة نورا البقّار الذي لا يُشبه أعمالها الصارخة، وأسلوبها البطيء في التعبير عن هذه الثورة الجميلة التي تأخذ خطوات عدّة في رُدهتها الحارة بحريّتها.
وتلك القدرة على حثّنا على التوقّف عن التظاهر في أعمالها التي تغوينا لنجلس "إلى جانبها" مشدوهين فاغرين الأفواه.
وكأنّها تدعونا إلى وليمة شهيّة بطلها خوفنا الذي خرج عن صمته.
ابنة طرابلس الحائزة على شهادة الماجستير من كلية الفنون الجميلة في فرن الشباك بدرجة امتياز، لم تتمكّن من العودة إلى "البلد" (الطرابلسيّ يُطلق على مدينته الجميلة اسم البلد)، بعدما غادرتها ذات يوم بحثاً عن نمط حياة يُشبه جنونها الداخلي. طرابلس "حلوة وبتجنّن. وستبقى بيتي، ولكنني لا أستطيع أن أمتثل بالحياة المُنغلقة بعض الشيء التي يُمكن أن نعيشها داخل مُجتمعها. أعتبر نفسي حرّة جداً، ومُنفتحة جداً. فعندما غادرت المدينة لأعزّز دراستي في بيروت لم أتمكن من العودة إليها أبداً". فإذا بالشابة المُتمرّدة والتي لا تخاف أن تكون مُختلفة، ترى في العالم الفني الذي خلقته لنفسها باكراً، واحة الحرية التي حضنت هذا العدم الانتماء الجميل إلى الخطّ الفني الكلاسيكيّ السائد.
وفي الجامعة اللبنانيّة، تعمّقت في الفن والنظريات التي اكتشفت بفضل أستاذها الدكتور رالف الحاج، بأنّها تفتح بها عشرات الأبواب السحريّة إلى أروقة المُخيلة. "تأثّرتُ كثيراً بالدكتور رالف الحاج. بدّل أسلوبي في العمل وفي التعامل مع النظريّات والتاريخ الفنّي. ومن هنا قراري في أن أقتحم رُدهة الدراسة مُجدّداً وأحوز شهادة ثانية في الماجستير. والفضل يعود إلى الدكتور رالف".
وفي اتّصال مع البروفسور رالف الحاج أكّد لنا أنّ نورا البقّار، "واحدة من أفضل الطالبات لدينا في القسم. تأثّر عملها بالفنّ القديم والمضمون في فنّ "الباليوليت" الذي له علاقة بقضايا النسويّة والجنس فضلاً عن الهوية الجنسية. عملها مهمّ للغاية من حيث أنّه يصف جوانب من حياتنا يتمّ إخفاؤها لصالح صورة مُركّبة للواقع".
ويضيف، "تملك نورا الجرأة لتذهب إلى أبعد ممّا هو تقليديّ، فتنتقده بشدّة. ومن هذا المنطلق فإنّ هذه الصورة المُركّبة بركيزتها المتمحورة حول المجتمع الأبويّ وسيطرته على المرأة تتبدّل كليّاً في أعمالها".
عائلة نورا المُمتدّة ليست مُنفتحة جدّاً، وهي تنتمي إلى مجتمع طرابلس التقليدي، "ولكنّ عائلتي الصغيرة المُنفتحة، نعيش الفنّ في يوميّاتنا. الموسيقى تصدح في المنزل طوال الوقت، لكلّ واحد منّا قصته مع الفنّ، لكلّ واحد منّا ميوله الإبداعيّة، ولكنّنا لا نستطيع أن نهرب كليّاً من المجتمع. ولم أتمكّن من أن أتأقلم مع كلّ ما يفرضه المجتمع علينا من قوانين وقيود. ووجدتُ في بيروت ما أبحث عنه. الفسحة التي حضتني وفهمت حريتي".
تعتبر نورا نفسها فنانة مُتعدّدة الاختصاصات، "ما في شي ما جرّبتو. من النحت إلى الكولاج إلى تجهيزات الفيديو والرسم واللوحات. ينقصني الغوص في الأداء. ولكنني في الحقيقة أعتبر أنّ الطريقة التي أعيش فيها يوميّاتي، هي أداء بحدّ ذاته، والفنّ الذي أنجزه إنّما هو توثيق لهذا الأداء. أنا الآن، مع جسدي، داخل المنزل، في الشارع، عندما أخرج، كلّ هذه العناصر تندرج داخل إطار الأداء. سينتهي الأداء عندما أموت".
وفي الجامعة، قرّرت أنّ المشروع النهائيّ في شهادة الماجستير سيتمحور على النحت. "خلال هذه الفترة وجدتُ اهتماماً كبيراً في الجسد. بكلّ ما هو ملموس. أردتُ أن ألمس الجسد، داخل الإطار الفنّي وخارجه. رحتُ أكتشف الأجساد". وانطلقت رحلتها مع المنحوتات، "وما بقى أعرف وقّف". وبعد 29 منحوتة قرّرت أن تُطلق على السلسلة اسم "استعادة أفروديت".
وفي هذه السلسلة تطرّقت إلى موضوع المثليّة، بأسلوب خاص بها، وصارت تُغازل كلّ ما نعتبره غريبًا ولا علاقة له بكلّ ما اعتدنا أن نراه في حياتنا اليوميّة في ما يتعلّق بالجسد.
وقبل أن تغادر البلد إلى فرنسا حيث بدأت كتابة الفصل الثاني من حياتها الشابة، عملت "باريستا"، أو نادلة مُتخصّصة في تحضير وتقديم القهوة على أنواعها في أحد المقاهي في بدارو، "وهذه التجربة كانت مهمّة جدّاً بالنسبة إلى حياتي لأنّني تطوّرت كإنسانة. كثّفت من تعاملي مع الناس. وكأنّني تحرّرت من إطار الفنانة التي كنت وضعت نفسي فيه. أصبحت إنسانة".
إلى فرنسا، ومدينة ليون حيث عادت مجدّداً إلى الدراسة، وإلى "مُسايرة" الفنّ من مختلف نظرياته. واليوم أصبحت الأعمال التي تخوض جنونها وتُريد أن تُنجزها أكثر شخصيّة. في حين كانت في الماضي عالميّة أكثر ولها علاقة بكيفيّة تعاملنا مع الجسد على إختلاف نزواته ورغباته وإطلالاته الخارجيّة.
في أعمالها السابقة تواجهت مع الأجساد المُهمّشة التي قد ننظر إليها بقليل من التعالي، وكأنّها تُزعجنا وتجعلنا ننظر إليها بما يُشبه الاشمئزاز. لاسيّما وإن كنّا قد قرّرنا سلفاً أن ننغلق على أنفسنا وألّا نسمح لأرواحنا أن تتنفّس.
"عندما بدأتُ العلاج النفسيّ، تطوّرت أعمالي. العمل النفسيّ ساعدني في أن أبدّل الزاوية التي أنطلق منها في أعمالي".
نورا البقّار لا تؤمن كثيراً في "الغاليريهات" ودورها في نشر أعمال الفنان. الـ"إنستغرام" يضطلع بدور محوريّ في إيصال أعمال الفنان وتجسيد الصورة الحقيقيّة أو حتّى المُتخيَّلة التي يُريد الإطلالة من خلالها.
والفسحة الوحيدة التي تشعر الشابة المُتمرّدة بالسعادة في عرض أعمالها الصاخبة حتّى الثورة فيها هي "آرنيلي" للشابة دزوفيغ أرنيليان، وهي فسحة تفسح المجال لكلّ الذين لم يجدوا بعد مكانهم في الحياة، ولكن لديهم الكثير ليعبّروا عنه.
"هدفي أن تُحدث أعمالي صدمة. فنّي عبارة عن إثارة الصدمة. صحيح أنني أبالغ في التعبير عن نفسي. أفرط في المُشاركة. أريد أن أجعل كلّ الموضوعات المُحرّمة مسألة عادية. كلّ ما له علاقة بالأجساد، كلّ ما له علاقة بالأفكار والحياة".
أعمال قد لا تُعير الجمال الكثير من الاهتمام، وربّما تُبالغ في استفزاز العين والروح المُنغلقة التي تخشى أن تصطدم بحقيقتها، ولكنّها صادقة، لا تحتاج أن تُشذّب جنونها.