مع القناعة العميقة بأنّ العالم يحتاج إلى العلم، وأنّ العلم يحتاج إلى المرأة، تثبت المرأة نجاحها المتزايد في جميع ميادين العمل والمجالات، خصوصاً في العالم العربي، حيث ساعد الانفتاح في بعض الدول على فتح فرص لها لإثبات جدارة لا تقلّ عن الرجل في مجالات عديدة، لا سيما العلوم منها. في هذا الإطار، يحتفل العالم في الـ11 من شباط من كل عام باليوم الدولي للمرأة والفتاة في ميدان العلوم، كفرصة لتعزيز وصول الفتيات والنساء إلى هذا الميدان ومشاركتهن مشاركة كاملة ومتساوية فيه، إضافة إلى إلهام الأجيال المقبلة على اختيار المهن العلميّة.
لكنّه على الرغم من تزايد عدد النساء في المهن العلمية حيث بتن يشكّلن ما يزيد عن 33 في المئة من الباحثين في جميع أنحاء العالم، وفق تقرير "اليونسكو" للعلوم لعام 2021، فإن هذا التحسّن لا يزال بطيئاً.
في هذا السياق، نسلّط الضوء على باحثات شابات واعدات في ميدان العلوم، من لبنان وسوريا والأردن، كُرّمن خلال برنامج لوريال - اليونسكو "من أجل المرأة في العلم"، بناءً على أبحاثهنّ العلمية التي ستخدم العلم والإنسان والعالم في المستقبل.
الأستاذة رانيا قصير
طالبة الدكتوراه رانيا قصير، من الجنسية اللبنانية، تتحضّر لمناقشة أطروحتها في جامعة Picardie Jules Verne الفرنسية. هي متخصصة في علم الأعصاب، تحديداً في الوظائف التنفيذية والتفاعل اللغوي عند ثنائيي اللغة. ركّزت في بحثها على تأثير استعمال لغتين على أداء العقل والإدراك لدى ثنائيّ اللغة، وزيادة المعرفة حول حالات الخرف لديهم، وأداء المرضى في الاختبارات التّنفيذية، واللغوية، والمختلطة.
تروي لـ"النهار" أنّه منذ تجربتها العملية مع كبار السنّ خلال دراستها الجامعية، ركّزت في أبحاثها على هذه الفئة؛ ففي لبنان ليس من أدوات أو أبحاث تطبَّق على كبار السنّ في هذا المجال بالتحديد. وفي بلادنا، من المعروف أنّ ثنائية اللغة شائعة، وكان من الضروريّ البحث في انعكاس هذا الأمر لتطوير أدوات للتشخيص المبكِر للخرف. توصّلت دراستها إلى أنّ الأشخاص الذين يتحدّثون لغتين تتأخّر ظهور عوارض الألزهايمر لديهم ما بين 4 إلى 5 سنوات.
تذكر رانيا أنّ التحديات كانت متنوّعة، منها كونها امرأة "فأوقات عديدة لم تؤخَذ دراستي على محمَل الجدّ"، إضافة إلى الأزمتين الصحية والاقتصادية في لبنان، فهي بدأت دراستها على أبواب انتشار كورونا والأزمة الاقتصادية في لبنان، في أواخر عام 2019. كذلك، شكّل غياب الوعي الكافي لدى المواطنين تجاه أهمية المشاركة في الأبحاث العلمية صعوبة في إنجازها، "لكن الحاجة إلى نتائج هذه الدراسة كانت أقوى من الظروف، ونريد إظهار إبداعنا والجانب الثقافي المشرق لدينا عبر الأبحاث".
وتؤكّد رانيا أنّ في السنوات الخمس الماضية، زاد عدد الشابات في العلوم. و"مع زيادة الوعي تجاه قدرات المرأة علمياً؛ ومع دعمها، تمكّنت من الاستمرار بإصرار أقوى، وقد ساهم تسليط الضوء على أبحاث الباحثات بتشجيع مزيد من الشابات للمضي في الاتجاه البحثيّ العلميّ؛ والنساء العالمات في مجتمعاتنا، اللواتي يتبوّأن مراكز علمية مميّزة، شكّلن قدوة لنا".
د. فاديا الحاج حسين
الدكتورة فاديا الحاج حسين، من الجنسية السوريّة، تخرّجت في كلية الصيدلة في جامعة حماه، وتخصّصت في الكيمياء العضوية والاصطناع الدوائيّ العضويّ. كباحثة في مجال الكيمياء، تركّز على كيفيّة تحويل الصناعات الكيميائية إلى صناعات صديقة للبيئة، فالصناعات الكيميائية التي لا غنى عنها في حياتنا اليومية من أصباغ وأدوية وغيرها من السلع، تخلّف نفايات كيميائيّة سامّة وضارّة بالبيئة، وهي من أهم الملوّثات. لذا، كان سعي الدكتورة للبحث في سبيل خدمة الإنسانية.
واجهت الدكتورة فاديا خلال مسارها البحثيّ صعوبات وتحدّيات جمّة. تعلّق بعضها بالأزمة والحرب في سوريا. وبعضها الآخر بكونها امرأة. فقد بدأت مسارها البحثي في عام 2012، واستمرّت حتى عام 2020، فعاصرت الحرب في أوجها، في بلدٍ تنقص جميع مقوّمات الحياة فيه، ومنها التعليم. وكان تنقّلها كامرأة، في هذه الظروف، وذهابها إلى المختبر "مغامرة بحدّ ذاته"، إذ كانت معرَّضة للاختطاف أو القتل بحكم الحرب. فالسيدات كنّ معرّضات أكثر من الرجال لحوادث أمنية. "لكن الذي يعيش في قلب الأزمات، يتولّد لديه الإصرار الأكبر على المحاولة للوصول؛ فأنا حاولت قدر الإمكان أن أقدّم شيئاً ما لبلدي"، تقول فاديا.
كذلك، ومن ضمن الصعوبات المتعلّقة بتداعيات الحرب، ثمة صعوبات لوجستية كتأمين الموادّ المخبريّة؛ فهناك عدم إمكانية لتنفيذ أفكار وأبحاث كثيرة تودّ الباحثة تنفيذها. وتضيف الدكتورة أنّ "هناك صعوبة أيضاً في تأمين منح لنا كسوريين، إذ نحن بحاجة إلى دعم ومِنح قدر الإمكان للمضي في أبحاثنا، ولدينا شغف كبير لخدمة العالم والإنسانية".
أمّا في ما يتعلق بالتمييز الجندري بين الباحث والباحثة في عالم العلوم، فتؤكّد الدكتورة فاديا أنّ هناك تمييز لصالح الباحث على الباحثة. وتروي خلال حديثها لـ"النهار" أنّه لدى ذهابها هي وباحث زميلٍ لها لاختبار مركَّب في مختبر ما، هناك دائماً تفضيل للباحث على الباحثة، باعتبار أنّ لدى الرجل الباحث مسؤوليّات أكبر وأهمّ من المرأة الباحثة.
لكن فاديا متفائلة جداً بمستقبل المرأة الباحثة، "فهي قادرة رغم الظروف الصعبة بجميع أنواعها على أن تنجح، وأن تشكّل قاعدة لمستقبل باهر. وقد استطاعت تثبيت مكانتها في عالم العلوم، والبدء بتغيير نظرة المجتمع البحثيّ تجاهها، إذ إنّ هناك إنجازات علميّة كثيرة تقف وراءها سيدات باحثات". لكنّهن بحاجة إلى دعم مستمرّ، كالمِنح التي تشجّعهن أكثر في ظل مجتمع العلوم الذكوري والتحديات الصعبه اجتماعياً".
د. دعاء أبو عرقوب
الدكتورة دعاء أبو عرقوب من الأردن، وهي أستاذة مساعدة في جامعة البترا - كلية الصيدلة، وباحثة مشاركة في مركز العلاج بالخلايا في الجامعة الأردنية. تخصّصت أبو عرقوب في تكنولوجيا الخلايا الجذعية - الطب التجديديّ، وركّزت في أبحاثها على تكنولوجيا الخلايا الجذعية للأسنان، وتطبيقاتها السريرية، باعتبار هذه الخلايا نهج علاجيّ جديد واعد، يمكن استخدامه في العلاجات القائمة على الخلايا في مجال الطّب التّجديدي. والعلاج بالخلايا الجذعية هو علاج جديد لكثير من الأمراض المستعصية كمرض السكّري، ويعتبر المستقبل الواعد للعلاج الجذري والنهائي.
عزّز مسارها البحثي مهاراتها الاجتماعية والتنظيميّة، وجعلتها تدرك أهمية البحث المستمرّ لتحسين جودة النتاج العلمي، إلى جانب مشاركتها في مؤتمرات تدريبية محلية ودولية في بلدان عديدة.
كباحثة منذ 11 عاماً، وخلال عملها، واجهت الدكتورة العديد من التحدّيات بدءاً من إنشاء خطّ البحث الخاصّ بها "تكنولوجيا الخلايا الجذعية السنية"؛ وهو الاختصاص الذي لم يعمل عليه أحد من قبل في الأردن، "وكان التحدي حقيقياً للحفاظ على أعلى المستويات في العمل".
لكن "التحدّي الأكبر"، وفق وصفها لـ"النهار"، هو كونها امرأة عالمة، لأن الفُرص المتاحة للنساء في مجالات البحث العلمي محدودة على جميع الأصعدة: المالية والإدارية والفنية. كذلك، فإنّ مصادر تمويل الأبحاث تكاد تكون محدودة مقارنة بعدد الباحثين الموجودين. ونظراً لصعوبة توفير الموارد المالية والفنية لإتمام العمل، وبناءً على إحصائيّات سابقة، فإنّ 30 في المئة من النساء يدرسن تخصصات لها علاقة بمجالات العلوم والتكنولوجيا، ومن بين هؤلاء 1.5 في المئة فقط ينخرطن في مجال البحوث العلميّة. وتُعدّ هذه النسبة في تراجع نتيجة صعوبة التواصل، وهيمنة أصحاب النفوذ في المراكز البحثية الشاملة، ممّا يجعل المهمة أكثر صعوبة لدى النساء، إذ يحتّم عليهن "بذل ضعف الجهد من أجل الحصول على هذه الفرص مقارنة بالرجال".
لكن الدكتورة دعاء تغلّبت على جميع التحديات، ونشرت العديد من المقالات البحثيّة المتعلّقة بالخلايا الجذعيّة السنيّة، وسجّلت براءة اختراع في هذا المجال.
لكن الباحثة ترى أنّ "الأمور تتّجه إلى التحسّن والتطوّر في المستقبل. لكن هناك حاجة لاستقطاب فعّال للفتيات والنساء للعمل في مجالات العلوم والتكنولوجيا لتغيير المعادلة نوعاً ما"، كما أنّ هناك ضرورة لتوفير فرص متساوية للنساء والرجال على مستوى العالم، من أجل ضمان الاستمرارية في المجال العلمي، إذ إنّ أغلب النساء يستسلمن وينسحبن من جراء ضغط العمل الناجم عن التمييز. وللتنوير والتركيز على قصص النجاح المميزة للنساء العاملات في البحث العلمي، برأيها، دور في تحفير النساء الأخريات على الاستمرار والعمل بجدّ من أجل تحقيق الأهداف العلمية.