النهار

"رحيل"
تعبيريّة.
A+   A-
"كل واحد منّا رايح لمطرح"، ففي النهاية كلنا راحلون. بطريقة أو بأخرى. 
 
و"هودي حياتي. ما عندي حياة غيرٌ. هودي رفقاتي. ما عندي رفقات من عمري. أنا ما بسهر أو بروح بلعب ورق. منّي دوّيم بمحل. بشوف هودي الناس. هول الشباب. بيروحوا معي على البيت. بيبكوا. بيضحكوا. بواسيٌ. صرت مرافق أنا وسندريللا شي 10 أو 12 منّن على المدبح. بزوّجن. هنّي حياتي".
 
في المبنى القديم من الفرع الثاني من كلية الفنون الجميلة والعمارة في فرن الشباك، في الطابق السفلي، وتحديداً في آخر الرواق الذي ندخله يميناً، صراخ (أو بالأحرى: عياط)، هتافات، تصفيق، رقص، وملاحظات ساخرة هي التعبير الأقسى عن محبة رجل لشباب لم يتوقف يوماً عن الإيمان بهم، "براندو! عَ مهلك! مش عم بفهم حكياتك براندو! بس منيح"، "شو بو هيدا بيضل يقرطلي خطابات بتمثيلو؟"، "حتى لو لخبطّوا، بيهمّني الإحساس!"، "نيّال بشرّي بأرزة متلك!"، "هلّق فهمت شو مشكلتكن! عم ترقصوا بعاد عن بعض"، "مرّكلها ياها يا زلمي! عم تعمل حالك مفكّر"، "عن جديد. منيحة. ألوع! بدّي ياها ألوع، يعني جايي الكلمة من لوعة!".
 
 
3 ساعات في قاعة قد نصفها بالمديدة في آخر الرواق الذي نصله يميناً. "صراخ وعياط"، هما في الواقع التعبير الأقسى لهذا الحب الكبير الذي يكنّه المسرحي غبريال يمّين لطلابه الذين من أجلهم، من أجل أن يمنعهم من الرحيل، يُقدّم لهم شرايين روحه، يقفز من كرسيه عشرات المرّات في الدقيقة الواحدة ليُجسّد لهم تماماً كيف يُريدهم أن يتعاملوا مع النص الذي هو في الواقع الشرارة الأولى التي ستمنعهم من الرحيل. أو أقلّه، ستُقنعهم بأن في هذا البلد المهجور حتى من أرواح الذين ما زالوا فيه، ما يستحق أن نُحارب من أجله.
 
تعابير وجهه تلتوي في كل لحظة في عشرات المشاهد التي سمح لنا بأن نستمتع في تفتّحها وردة جريحة في مسرحيّة "رحيل" التي تنطلق في ال14 من الجاري على مسرح المدينة لتستمر حتى 20 منه.
 
 
24 طالباً وطالبة يتعاملون مع هذا الرجل، تماماً ككل الذين ينعم عليهم القدر بفرصة التعرّف إليه، وكأنه المُنقذ والأب الحاضن الذي سيقيهم قسوة هذه الحياة.
فهم غبريال يمّين جيداً بأن الشباب الذين لا يستطيع البعض منهم الإبتعاد عنه فإذا بهم يخترعون الذرائع ليبقوا إلى جانبه، يحتاجون الآمان الذي يُجسّده لهم. 
فكانت مسرحية "رحيل"، التي سنتعرّف من خلالها إلى عشرات الشخصيات التي تعيش الرحيل على طريقتها.
 
"كل واحد منّا رايح لمطرح"، كما يُردد "غابي" كما يعرفه الأصدقاء، وفي النهاية كلنا راحلون.
 
 
"يحرق رفّك، ما كلّها جملتين!"، "ما تمثّلي! عم تختنق الشخصيّة مش عم بتمثّل!"، "تغزّلي فيه"، "براد بيت! خلّيك عم تطلّع فيها"، "دخيلكن ما تمثّلوا! دخيلكن! يلعن أبو التلفزيون وساعتو يالّلي نزعكم".
 
و"كل إنسان بهالدني رايح لمطرح"، كما يُردّد غابي الذي يُعرف عنه أن باب منزله "ما بيتسكّر".
 
 وإن زوجته، الصبيّة الرائعة، سندريللا، التي تُرافقه منذ أكثر من 20 عاماً، تستقبل العشرات الذين يتعاملون مع منزلها وكأنه آخر ما تبقّى لهم من زمن نبيل رحل مُستأذناً و"على قلبها متل العسل".
 
هي التي تعشق غابي وتعتبره شرايين روحها منذ أكثر من 20 عاماً.
 
 
 يقول لي "غابي"، "ما سندريللا وحدن منن. بتعرفهم. بتعرف معاناتهم". إذ كانت طالبته، هي الأخرى ذات يوم. وهي إلى جانبه في كل لحظة، ولم تغب ولو لطرفة عين عنه خلال فترة مرضه الخطير الذي كاد أن يوصله إلى المحطة الأخيرة، لولا تمسّك سندريللا بهذا الرجل الأكبر من الحياة، وإصرارها على أن يقف مجدداً، "على رجليه" من أجلها ومن أجل نجلهما "غابي جونيور"، بكل تأكيد. 
 
ولكن أيضاً من أجل المئات الذين تحوّل مع مرور الوقت بالنسبة إليهم برّ الآمان، في وقت نشعر جميعاً بأننا غرباء في موطننا.
هذه المسرحية، "نويت عليها قبل مرضي"، أي قبل أكثر من 5 سنوات. في البداية أراد أن يختبر المسرح بطريقة مختلفة لم يعتدها الناس، وأعطى الدور خطوة فأخرى لطلابه لكي تكون لهم لحظات عزّهم.
 
وبطبيعة الحال كان للقدر خططه.
 
 
وإجتاح فيروس القرن ما تبقى من أوهام تعلّقنا لفترة طويلة بها. فكان محاولة أخرى في مسرحية مع ممثلين مخضرمين يُرافقون غابي في يوميّاته ويفهمون عليه وعلى مزاجه. ويعرفون جيداً بأن "الصراخ والعياط"، هما لغة التواصل التي يُتقنها لينقل حبه للآخرين.
 
وفي منتصف التمارين، إكتشف غابي أن المسرحية يجب أن تتبدّل. وإن الناس لن يرغبوا في مشاهدة، "الكبار" على المسرح.
 
وبما أ،ه لاحظ اليأس "دابب" في حنايا الطلاب الذين يعيشون معه "تقريباً" في منزله الجبلي الجميل، "قال لهم، "يللا! ولا يهمّكم. أنتم أقوياء ومناح والناس راح يحبوكم".
 
وهي الجمل نفسها التي يُرددها لنا نحن الأصدقاء الذين نلجأ إليه باستمرار في لحظات يأسنا التي باتت "مُزمنة"!
 
25 طالباً وطالبة، و"شي 5 عم بيساعدوا"، وهو يطلب منهم أن يدخلوا "لعبة الإنتاج أيضاً، وأن يتواصلوا مع أهل الصحافة والمحطات التلفزيونيّة ليفهموا أصول المهنة ويشعروا في الوقت عينه بأنهم أقوياء، و"ولا يهمكم، أنتوا مناح، بس آمنوا بحالكم".
 
وهؤلاء الطلاب، يتأقلم معهم غابي. لكل واحد منهم شخصيّته، و"عقلاتو" ومعاناته وهيباته.
 
وغبريال يمّين يفهم جيداً بأن المسرح يُساعدنا على الشفاء.
 
 
وفي ال14 من الجاري، نحن على موعد مع مواهب "ضيعانها ما تتفجّر". 
 
في حياته اليوميّة، يمضي غبريال يمين وقته في الكتابة، وفي تقاسم الأنفاس والأيام مع طلابه. وهو يعرف جيداً، بأنهم يعشقون المسرح ولكنهم يركضون خلف "لقمة العيش"، على إعتبار أن القطاع الفني والثقافي هو أول ضحيّة في الأزمات والشدائد.
 
"هودي يالّلي غاطسين بالشغف، شو فيكي تقوليلن؟ وقّفوا حلمكم؟ ما فيكي. كفّوا؟ بتكوني عم تجني عليُ. ما بتقدري غير توقفي حدّن. تعطيهم من خبرتك. من عرقاتي يالّلي نقّطت على المسرح".
 
غبريال يمّين لا يعلّمهم إنطلاقاً من الكتب. "بعطيهم من اللحم الحيّ. من كل شي عطاني ياه ريمون جبارة. مش عم بعمل كاريتاس. ريمون عطاني وحمل حالو وراح. وأنا راح أحمل حالي وروح، فخلّيٌ يكفّوا على سكة منيحة".
 
 
مسرحيّة "رحيل"، "مسرحية كاملة تروي قصص الناس. هودي يالّلي بيضبضبوا شنطن وبيفلّوا. يا بيطلعوا بالباص، يا عند ربنا لفوق".
 
البعض يقول، يا ريت فليت لمطرح".
 
والبعض الآخر يقول، "منيح يالّلي بقيت هون".
 
ولكن في الحقيقة، وبحسب غبريال يمّين، "لازم نروح لمطرح نحن منخلقو. نحن منفكر فيه. ما بئى لازم نفتش وين لازم نعيش. لازم نعيش بس".
 
كان من المفترض أن نُقابل كل هؤلاء الطلاب الذين نتوقع لهم نجاحات باهرة، ولكن سننتظر الإفتتاح، لنعطيهم لحظتهم فيروون لنا تالياً قصتهم مع المسرح، قصتهم مع غابي.
 
تمكنّا خلال الساعات ال3 التي أمضيناها في القاعة شبه المديدة في آخر الرواق في المبنى القديم التي لا يعرف كُثر كم من مواهب شاهقة تذوب بين جدرانه، من أن نتحدث مع البعض منهم.
 
 
 
ولكننا سنلتزم الصمت حالياً، حتى نسمح لهم بأن يُقدموا على خشبة مسرح المدينة شرايين روح غابي التي نقلها لهم من خلال حبه لهم وإصراره على تحويل اليأس في عيونهم منارة أمل.
 
وبعد الإفتتاح، نسلّط الضوء عليهم جميعاً، "الواحد ورا التاني".
 
غبريال يمين، لا يُظهر إرهاقه وهزّات المرض الإرتداديّة التي تجتاح جسده لهؤلاء الشباب الذين يتعلّقون به وكأنه آخر الذين ما زالوا يؤمنون بهم. آخر الذين ما زالوا يصدقون الحياة.
 
 
لاحقاً، عندما نتحدث معاً على الهاتف، بعد ساعات طويلة من التمارين، بالكاد أستطيع أن أسمع صوته من شدّة التعب.
فتُذكرني هذه اللحظة بفترة الحجر الصحّي، عندما كان غبريال يمّين يُنهي علاجاته الكيميائيّة. إتصلت به ذات مساء لأحدثه عن مشروع أدبي أحاول أن أنجزه هرباً من الجدران التي تحولت مسكننا جميعاً.
كان يتألّم كثيراً من تأثير العلاج ومع ذلك ، همس لي، "ما تواخذيني موجوع كتير. هلّق وقت روق منرجع منحكي عن مشروعك. ما تستسلمي. خليكي عم تحلمي".
 
 

اقرأ في النهار Premium