المرأة وتربية النحل. لم نعتد السماع بامرأة تربّي النحل وتتحمّل لسعاتها وتقوم بهذا العمل الشاق والمضني. لكن هناك دائماً مَن يكسر القاعدة، وفاتن مصري هي مَن اقتحمت عالم تربية النحل للمرة الأولى في لبنان، على حدّ تعبيرها، منذ 14 عاماً. فتحت منحلتها في قريتها صليما (قرب حمّانا)، ودخلت هذا العالم لحبّها للطبيعة ولفضولها في اكتشاف المزيد عنه ولهوايةٍ أحبّتها. وأصبحت هذه الهواية مصدر دخل أساسي لها ولعائلتها.
وصلنا إلى صليما، وكانت المحطة الأولى في منزل فاتن، لنسير خلفها إلى المنحلة. على أبواب المنحلة، لبسنا البدلات الواقية من النحل، ونزلنا إلى "القفران" الموزَّعة على شكل منازل صغيرة من الخشب. فقد حرصت فاتن على أن يشكّل هذا المنظر بيتاً حقيقياً للنحل بالشكل والمضمون، لا العلب المعتادة للقفير.
"بيني وبين النحل علاقة غرام وإدمان، ومَن يدخل عالم النحل من الصعب جداً أن يتركه إلّا لأسباب قاهرة"، تقول فاتن وهي تتحرّك في منحلتها كالنحلة، بحركة خفيفة ونشيطة لا تكلّ. تدرك عملها باحترافية. ولو لم تعلم أنّ فاتن هي مَن يرتدي البدلة الواقية، لخِلت أنّ مَن يعمل في المنحلة وبين هذا الكمّ الهائل من النحل، هو رجل وليس امرأة.
"لم يكن الهدف من دخولي عالم تربية النحل منافسة الرجال، لكنّني أحببت النحل وتعلّقت به، وذلك دفعني إلى تطوير هوايتي"، تروي فاتن. في بادئ الأمر، حاول الناس نهي فاتن عن هذا العمل باعتبار أنّه "عمل شاقّ وخاصّ للرجل"، أمّا الآن "فالجميع فخور بما أنجزت ونافست، وزوجي أيضاً ساندني ولا يزال"، وفق المربّية. لكن بالنسبة إليها "الأمر عادي جداً، فأنا شخص محبّ للطبيعة، ولا أرى أنّ هناك مهنة حكراً على الرجال فالمرأة قادرة على ممارسة أي مهنة ترغب فيها".
وما يميّز عمل المرأة عن الرجل في تربية النحل، هو تعامل المرأة الأهدأ مع النحل. فهذه الكائنات تحتاج إلى التعامل معها بهدوء ونظام وترتيب، لذلك فإنّ المرأة أقرب إلى عالم النحل من الرجل.
كانت فاتن أول شخص في عائلتها يربّي النحل. وتشغل حالياً منصب عضو مجلس إدارة في اتحاد النحالين العرب وهي المرأة اللبنانية والعربية الوحيدة في هذا الاتحاد. وبرأيها، استطاعت المرأة إثبات نفسها في قطاع تربية النحل، ونشهد في الفترة الأخيرة إقبالاً للنساء عليه. وقد لُقّبت بـ"ملكة العسل"، ربّما لأنها الوحيدة للتي دخلت بقوة إلى عالم النحل من بين النساء، بنظرها.
وقد أعدّت فاتن كتاباً بعنوان "المساعد في تربية النحل" بالتعاون مع أحد زملائها، و هو يتضمّن جميع أسرار هذه المهنة وخلاصة خبرة تفوق العقد من العمر. وتورد فاتن أنّها تعلّمت من الكتب والمراجع قبل الممارسة العملية، و"الخبرة التطبيقية هي التي علّمتني ولم يعلّمني أحد".
تربية النحل عمل شاق بقدر ما هي ممتِعة، وتحتاج إلى قدرة على التحمّل. لذلك، تشجّع فاتن النساء على تربية النحل "إذا كنّ يحببن النحل طبعاً".
"علاقتي بالنحل كعلاقة أمّ بأطفالها، أنا مغرمة بها وإن حصل لها أيّ أذىً فالأمر يبكيني، وقد يعود الأمر لأنّني أنثى وعاطفتي أقوى لكوني أحمل و أربّي الأطفال"، تروي فاتن. وحتى أهل القرية يدركون الرابط بين فاتن ونحلاتها، إذ عندما تلسعهم نحلة، يشتكون من باب الفكاهة لفاتن :"ابنتك لسعتنا".
تتعامل فاتن مع لسعة النحلة بهدوء وطبيعية واعتياد. لسعتها نحلة لدى حديثها معنا، ولحظتها، "آن الأوان لأن أضع خوذة الرأس لأنّ باقي النحل الآن سيشمّ رائحة السمّ الذي تركته النحلة التي لسعتني، وسيأتي القفير ليلسعني"، تقول فاتن وهي تضحك. ومن كثرة اللسعات التي تعرّضت لها، ومنها في بياض عينها (وهي من أصعب الأوجاع على حدّ وصفها)، بات جسدها معتاداً على هذا السمّ ولا يلتهب جلدها من جراء لسعة النحلة "إذ ربّى جسمي مناعة قويّة ضدّ هذه اللسعات".
لدى فاتن 300 قفير بعدما كانت 500. لكنّ العدد انخفض بسبب الأزمة، إلّا أنه لا يزال عدداً كبيراً ويدلّ على حرفية المربّية، فكلّ مربٍّ يمتلك ما يفوق المئتي نحلة، يُعدّ من ذوي الخبرة، وفاتن تخطّت هذه المرحلة بأشواط. تذكر السيدة أنّ في صليما حوالي 20 مربّي نحل، والمنطقة معروفة بتربية النحل.
مردود تربية النحل كان جيداً جداً قبل الأزمة، توضح فاتن. ورغم مواجهتهم بعض مشاكل العوامل الطبيعية، كان مربّو النحل يسجّلون أرباحاً، إذ كانت الكلفة غير مرتفعة. لكن مع الأزمة اختلف الأمر، وأصبحت تكاليف تربية النحل عالية جداً، والآن، نحو 90 في المئة منها بالدولار. وقطاع النحل من أكثر القطاعات تأثّراً بالأزمة، فالناس يعتبرون أن العسل سلعة ثانوية و"هو تفكير خاطئ"، وفق فاتن، ولذلك، استغنوا عن شرائه بسبب تراجع قدرتهم الشرائية، بالإضافة إلى المضاربة السائدة في سوق العسل من العسل المغشوش.
وعن أسعار العسل حالياً، تؤكّد فاتن أنّها حوالي نصف سعره ما قبل الأزمة، ويراوح ما بين 15 و20 دولاراً للكيلوغرام "في أحسن الأحوال".