المسألة أكبر بكثير من الأطعمة النضرة المُزوّدة بوجه الذكريات العتيق ونكهة التوابل العطريّة.
إنها في بعض الأحيان تجربة تذوّق كلّ نكهات العالم من دون مغادرة المنزل،
ومضغ حبوب الرمّان التي قد ترتدي نعومة ملمس الفانيلا؛ وقد تكون عمليّة أقرب إلى سرد قصص أفراد عائلة بكاملها أكثر من كونها سرداً لنوادر الطهو.
والتجمّع حول طبق من الكبّة "السفرجليّة" التي نحتفل من خلالها بالخريف قد يكون أقرب إلى مشهد من قصّة قصيرة توحّد العائلة تماماً كنكهة القرفة أو الليمون المبشور، وإلى رشفة من شراب التوت الخفيف بعد ظهر يوم عادي، تتداخل فيه الأحاديث الجانبيّة المُلبّدة بالملاحظات "يالّلي مش بمحلّها" حول هذا الطبق أو ذاك مع الكثير من الضحك، والفرح، ومُشاطرة هموم الأيام التي تمرّ من دون استئذان.
والمطبخ بالنسبة إلى طبيبة الأطفال، نهى باز، التي تبثّ الفرح في حياة كلّ من يُصادفها، هو الفُسحة التي اختارتها باكراً لتُعبّر عن عشقها للآخرين، وعن إصرارها على التحاور معهم من خلال وصفات ورثتها من نساء العائلة، وأخرى كتبتها قصيدة اللقاء مع كلّ ما هو جميل في هذه الدنيا، التي تعشقها وتُغنيها لحن حالاتها المُتقلّبة.
نجلس معاً في مقهى بيروتي يُشرف على بحرنا المُزخرف ببقايا أحلامنا. لا تتوقف عن إلتقاط الصور للمغيب، ولألوان السماء المُتغيّرة، ولكلّ الذين "يزورونها" عند الطاولة التي إختارتها جسر لقاء بينها وبين كلّ من يحتاج إلى مُساعدتها بطريقة أو بأخرى. نتحدّث عن شتّى الأمور، لكن الموضوع المحوريّ يبقى بكلّ تأكيد "جائزة زرياب" الأدبيّة السنويّة التي أطلقتها في العام 2014 لمُكافأة عمل ناطق بالفرنسيّة مُخصّص لفنّ الطهو.
جائزة هذا العام كانت من نصيب تانيا براسور عن عملها Simplement Suisse. وبالنسبة لنهى باز التي تملك مئات الكُتب التي تتمحور حول المطبخ، واختارتها خلال أسفارها حول العالم، فإن الغوص في هذه الأعمال يُشبه إلى حدّ بعيد الغوص في روايات مليئة بالنوادر الصغيرة، إذ إنّ المطبخ بالنسبة إلى هذه المرأة التي لا تتوقّف عن الضّحك وعن خلق المشاريع لزرع الفرح والأمل أينما حلّت، يروي تقاليد المنازل وطقوسها. وهي تزور الأسواق الشعبيّة التي تعرض الكتب، وكأنّها في الواقع تزور المتاحف والفسحات الثقافيّة.
وفي ما يتعلق بجائزة زرياب، فإن اللجنة تقرأ سنويّاً عشرات الكُتب التي ترتكز على عالم المطبخ وعوالمه الصغيرة المُتداخلة، وتتكدّس فيها القصص حول التقاليد وكلّ ما يجري بين الخزائن والفرن والمقالي، ولا يُعير الأعضاء أهميّة محوريّة للوصفات بحدّ ذاتها.
هي القصص والتقاليد التي تتربّص خلف عمليّة الطهو والأسلوب السرديّ، وهي التي تجذبهم. أرادت نهى باز أن تكون جائزة "زرياب" التعبير الأقصى عن تقاليدنا وتُراث بلدنا المحفور في الصحون وفي المائدة التي تحتوي على عشرات المشهّيات. جائزة هي أقرب إلى جسر ثقافيّ تبنيه من خلال تُراث الأكل، الذي يُعتبر من الفنون الراقية والمُخمليّة الملمس والمذاق.
فللعدس بحامض - على سبيل المثال - أهميّة كُبرى. وبحسب نهى، "قصّتو قصّة". وُلد في الجبال في وقت شعر بعض القرويين بأنّهم عاجزون عن شراء اللحمة، ولكن عصرة الحامض فوق العدس توفّر لهم امتصاص الحديد الذي يحتاجون إليه.
ولثقافة المطبخ مكانتها الخاصة في قلب نهى باز، ولطالما تعاملت مع الكتب التي تروي المطبخ كقصة حبّ مُتعددة الفصول؛ ولكلّ وجبة تتناولها قصة "تسندها" وتتربّص خلف مكوّناتها. "خلال أسفاري، أجد متعة كبيرة في زيارة أسواق الأكل الشعبيّة تماماً كمتعتي في زيارة المتاحف. أريد أن أعرف ماذا يأكلون؟ ما هي الموادّ التي يستعملونها في المطبخ؟ لأنها من التفاصيل التي تكشف لي عن تراثهم ويوميّاتهم. أبحث عن المذاقات التي تُسافر مع الزوّار".
كانت جائزة زرياب، التي وجدت فيها هذه الطبيبة المُلقّبة بماري بوبينز، الطريقة الفضلى للاحتفاء بثقافة الطبخ. واختارت لها اسم زرياب تيمّناً بفقرة تُعنى بالطبخ، تحمل هذا الاسم، كان يكتبها صديقها المؤرّخ والمتخصص في عالم المأكولات السوري الفرنسي فاروق مردم بيك، Les Chroniques De Ziryab. وخلال أوقات فراغها في المستشفى الباريسيّ الذائع الصّيت، حيث تعمل في العاصمة الفرنسيّة، كانت تقرأ مقالات فاروق بإصرارها وقدرتها على جعل القارئ يُسافر مع المأكولات وهو جالس في بلده.
ومع كل نسخة، يتهافت الذوّاقة من كلّ أنحاء العالم ليُشاركوا على طريقتهم في إنجاح هذه الجائزة. وتُصرّ نهى باز على أن يزوروا لبنان معها بمناطقه وقراه ومدنه التي لا علاقة لها بالصورة النمطيّة المطبوعة في مُخيّلة الغرب والأحكام المُسبقة التي يرسمونها عنّا، وتُصرّ باز على أن تكون بعض مآدب العشاء في متحف "ميم" الذي تصفه باز بالجوهرة.
وفي هذا العام، وبما أن المعهد الفرنسي طلب منها أن يكون العشاء السنويّ لهذه الجائزة الأدبيّة المرموقة في مقرّه، كان العشاء الذي يحمل اسم Le Diner De Ziryab، وكان بحسب باز، "Fully Booked".
نهى باز تهتف "غرامي بيروت، لايكي لايكي هالمنظر، لحظة لألتقط صورة للمغيب. جلت العالم ولكن هذا لا يمنع أن بيروت تبقى بيروت".
لجنة التحكيم مؤلّفة من ذوّاقة من الشرق والغرب، أضف إليهم أهل الصحافة الفرنسيين. أقامت باز لهم جولة تذوّق للمأكولات ليكون لهم لقاء مباشر مع تراثنا".
وتبقى جائزة زرياب حكاية الأرض الذي نعيش فيها، ولنا معها عشرات فصول ومشاهد وحكايات، محورها بكلّ تأكيد المطبخ. ولكن ركيزتها الوحيدة تبقى الحُبّ بكلّ أشكاله لتراثنا وتقاليدنا المُتجذّرة بالحرّ والحمّص والمتبّل وحبوب الرمّان التي ترتدي نعومة مذاق الفانيلا كما تصفها نهى باز.