النهار

يا أيها... لا تستعجل في الفرار!
من المعرض.
A+   A-
الكلب الأسود الذي نجا من انفجار تلك السنة ما يزال يقطن في المنطقة الشاهدة على ماضٍ لم يُغفر له تماماً. والبعض يزعم بأننا لن ننساه "بهال كم يوم الجايين". وجميع الفنانين وأصحاب المحالّ الذين لم يتخلّوا عن الميناء البحريّ، وإن كان صُراخ الأموات يُسيّج حدوده، يُطعمونه أشهى المأكولات، ويواسون وحدته التي تُشبه إلى حدّ بعيد ثوب الوحدة الذي يُرافق يوميّاتهم.
الفنّانون الذين اتّخذوا المرفأ البحريّ "حاضن جنونهم" يتعاملون مع هذا الكلب "المُزخرف" بالندوب، وكأنه البطل الذي لم يتمكّن غضب الجحيم من أن يقتل براءته؛ وهو بدوره يُحاول جاهداً إظهار سعادته وامتنانه بقفزات صغيرة في الهواء من دون مُراعاةٍ لساقه العرجاء.
"بيفهموا ع بعض".
ووسط المباني الصناعيّة في هذه المنطقة التاريخيّة، قرّر عشرات من ذوّاقة الفنّ أن يتّخذوا المنطقة مربض خيلهم، ليستفزوا من خلالها الذاكرة وما تبقّى من ومضات هاربة من الإبداع.
وبما أنّها سيرة وانفتحت عن الفنّ، هذا المساء، سنشهد افتتاح فُسحة أو "أكوان" مُتعدّدة الاستعمال، بحسب المُنسّق الإعلاميّ والشاعر محمود وهبة، تحمل اسم "يا أيها" أو Hey, You، في الإنكليزيّة.
 
يروي لنا وهبة بين رشفة من الإسبريسو "المعمولة طازة" من المحلّ الصّغير في الزاوية المُقابلة للفُسحة، "يا أيّها مشهد عاطفيّ لأكوان مُتصادمة. هي قصة فوضى لبنان وهجره واختطافه. ملحمة مواطنين وحكم في انفصال تحت ضغط القوى الفاسدة وكوارث من صنع الإنسان".
وفي المعرض الجماعيّ الأوّل، الذي تُقدّمه هذه الفسحة – الأكوان المُتعدّدة الاستعمال، نجد "نخبة من الفنّانين التشكيليين اللبنانيين والدوليين المُقيمين في لبنان، تجمعهم غريزة البقاء والارتقاء. ويُجسّدون حواراً خافتاً، نشأ وتغلغل في خضم هذه الفوضى. إنّه شكل غريب من أشكال اللغة، ينبثق من الأعمال المعروضة، إلى جانب الإيمان المُتجدّد بالفنّ كأداة للمُجابهة".
يضيف: "النداء ينطلق من المقولة الشهيرة (يا أيها) المُستخدمة في الأدب العربي كدّعوة للحبيب، وللعاري، وللمُتألم، للبعيد أو النائم. الأعمال في (يا أيها) تطمح إلى إعطاء معنى جديد: تحويل الخيال إلى واقع بوصفها أكواناً مُتعدّدة العواطف والقصص والمشارب".
لا يقترح المعرض حالياً "أيّ وجهة، إنّما يظهر كدراسة للماضي من مكان ما في المستقبل، إلى حاضر يكاد يختفي. هو فحص قريب جدّاً لفكرة مُنقرضة تُشبه بشكل غريب أفكارنا".
هذا المعرض يضمّ أسماءً من مختلف البلدان، ويُمكن أن تكون فرشاة الرّسم الخاصّة بهذا الفنان رشيقة، مثل قطة عنقها طويل، وليس لديها وقت للتثاؤب.
وربما كانت الأعمال قاتمة، تحمل في ثنيات ثوبها الكثير من التناقضات، وطيف حروب داخليّة "مُتأججة".
نستغلّها فرصة للتعرّف على الفنّان السوري الشاب، أحمد فاضل، صاحب النظرة الحادّة التي "تطيل التفكير" بكلّ ما يحدث داخل إطار "أنوارها". فاضل (29 عاماً) ابن دمشق الجريحة تماماً كبيروت. درس في كليّة الفنون الجميلة فيها، ويُقيم حالياً في عاصمتنا التي تشهد ولادة جديدة. انتقل للعيش فيها منذ ما يُقارب الأشهر الـ9. بدايةً، "أي في الأشهر الـ6 الأولى، نادراً ما كنت أغادر المنزل. ولكنّني اليوم أرى أن بيروت (عايشة ع الثقافة) وعلى الحركة الفنيّة. المعارض في العاصمة (ما بتخلص) ممّا يُشعرني بالفرح والتعب في آنٍ. كلّ يوم نعيش التنوّع والأعمال الجديدة لا تحبس جنونها في داخل إطار واحد. جمال بيروت يكمن في انفتاحها على مختلف الثقافات".
 
أسلوبه الفنيّ اليوم لا يُشبه الأعمال التي أنجزها كطالب في كلية الفنون الجميلة في دمشق. في تلك الفترة، كانت أعماله أكاديميّة الطلّة، وكان في تلك الفترة يعشق اللون الذي يُضيء الكانفا ويُزوّدها بالأبعاد الزاهية التي تجعلها أقلّ قسوة.
الأساتذة لطالما ردّدوا على مسمعه: "أنت وحش في ما يتعلّق باللون وكيفيّة استعماله".
وبعد التخرّج، وجد ابن الـ29، الذي لا يرى نفسه شاباً، بل "كبير بالعمر!"، أن حالته النفسيّة تتأثر بكلّ ما يجري من حوله من كوارث وخيبات وتحدّيات. وبدأت أعماله تميل إلى الاتزان العنيف، والتناقضات.
يؤمن بأن الأعمال قد تروي عشرات القصص، ولكنه في الأيّام الأولى كان يخفي النوادر المُستقرّة بوقار عنيف في أعماله.
اعتبرها من الموضوعات الشخصيّة التي يجب الاحتفاظ بها في الداخل، فنحجبها عن العيون الفضوليّة.
اليوم لا مانع لديه في أن يتكلّم عن أعماله؛ لا بل "المفروض أحكي لكي يفهم الآخر العمل مئة في المئة".
الإنسان - بحسب هذا الشاب - يصل إلى مرحلة يتخبّط فيها العقل مع الغريزة. لا ينحصر عمله في داخل إطار أو أسلوب واحد بل يُمكن أن يشتمل على الحبر تماماً كما على الفنّ التلصيقيّ أو الكولاج.
 
ها قد وصل مُنظّم المعرض وصاحب الفُسحة، الفنان فادي الشمعة. نجلس معاً على الدّرج الطويل حيث ينصهر المكان المديد الذي ما زال يحتفظ بآثار ذلك المساء والخارج، حيث الأعمال مُستمرّة لإعادة صوغ زلزال الرابع من آب من تلك السنة.
المزيد من القهوة من فضلكم، ما بين "سيلفي" وعشرات الصور التي تُسلّط الضوء على المكان المديد المؤتمن على عشرات الأساليب الفنيّة.
"هذه الفسحة محاولة للبقاء على قيد الحياة. عشرات الفنّانين لا يجدون من يتبناهم خلال هذا الشهر على وجه التحديد. في هذه الفسحة نعترف بأنّ لكل فنان كونه الخاصّ وقصصه الشخصيّة ولغته الخاصة. من خلال هذا المعرض الأول أردت التأكيد بأنه تفصيل جميل أن تتنافس عشرات الأكوان لتصطدم، ثمّ تتلاقى. بإمكاننا جميعاً أن نتعايش. تبقى الفكرة المحوريّة للفسحة، تماماً كالمعرض الجماعي الأول فيها، أن يتمكّن الفنان من العيش والبقاء على قيد الحياة، والوقوف جنباً إلى جنب مع الزملاء وإن كانت العوالم تختلف".
يحمل المعرض الأول عنوان، "يا أيها"، تيمّناً باسم الفسحة التي تحتضنه حتى نهاية الشهر الحالي (والعام الحالي!).
واختار الشمعة 14 فناناً وفنّانة قد يستسيغ أعمالهم، أو ربما عاش حالة نفور منها، ولكنه يعترف بإبداعها.
ففي النهاية، "المسألة لا علاقة لها بي شخصيّاً".
إنّها قصّة الفنّان في الدّرجة الأولى.
الفنان أمين بولس يعتمد على الكولاج ليُعبّر عن ذاته منذ أكثر من 30 عاماً. ذات يوم شعر فيه بالملل، اصطدم نظره بوصفة مأخوذة من مجلة، فإذ به يُقرّر أن يصنع من الصفحة تنّورة "بليسيه".
والخطوة التالية كانت في تصميم الثياب المدروزة بالكولاج.
 
وعمل مع آمال طرابلسي (Epreuves d’artistes) طوال 20 عاماً، ولم يملّ يوماً من الكولاج. بقيت المُلصقات رفيقته في كلّ الأيام. "من المستحيل أن نشعر بالملل عندما نختار الكولاج أسلوب حياة، والتعبير الفنيّ الأقسى الذي يُشبهنا". ما يغويه في عالم الكولاج أنه في الواقع لا يتعامل مع عالم اخترعه بنفسه. "ما أقوم به هو العمل على عالم اخترعه أحدهم من قبلي".
الكلب ما زال مُنهمكاً بالترحيب بزوّار هذه الفسحة التي لا باب لها يحميها من "غدر الأيام"، والشاهدة على أعنف وأبشع مجزرة جماعيّة شهدها البلد. تكاد قفزاته الصغيرة التي تُعبّر عن سعادته تهتف على طريقتها، "يا أيها... لا تستعجل في الفرار! هذا المكان المسكون بالدماء المُندثرة يعيش اليوم غليان العودة وشرارتها بعد انقطاع وعزلة".
وعشرات الفنانين يُلقون التحية للمعرض والفسحة – الأكوان طوال ساعات.
ظلمة أول الليل؛ الهدوء النسبيّ يُهيمن على المنطقة التي قرّرت الانقلاب على واقعها.
فنجان القهوة "استقر" على آخر درجة تصل الفسحة الداخليّة بالأخرى الخارجيّة.
الأحاديث الجانبيّة تنساب بين الأعمال الفنيّة لتنصهر بنسمة كانون الباردة والهاربة من الأيّام.
الكلب الأسود قرّر في هذه اللحظة، "أن يُسرّب". نلتقيه مجدّداً "شي يوم تاني". قرّر في هذه اللحظة أن ينضم إلى الأصدقاء الذين يتقاسم معهم الأرصفة في منطقة الميناء البحري. يهمس محمود وهبة مُطمئناً نظرتي القلقة، "ما تعتلي هم. كلّ الناس هون بيطعمو هوّي وأصحابو. ما حدن تاركن".
وفادي الشمعة يؤكّد بدوره، أنه، شخصياً، لن يهجر الفنان اللبناني أو المُقيم في البلد، وستكون الفُسحة – الأكوان المُتعددة الاستعمال هذه، الشاهدة على إعادة بناء عاصمة تمّت "تصفيتها" بكلّ تأكيد، "و ع الآخر"، ولكن القتلة لم يتمكّنوا من تصفية الروح مع أنهم سلبوا منها تنهيدة البدايات الجميلة والقصيرة.
"معليش"، مرحلة انتقاليّة نعبرها معاً، يداً بيد.
"إلا ما تظبط معنا"، بين محاولة ومئات غيرها.
وإبتداءً من الرابعة من بعد ظهر الغد الخميس، سيكون بإمكاننا أن نزور المعرض في افتتاحه الرسمي، للتعرّف من كثب على الفسحة المينيماليّة والمديدة في آن، وللتحاور مع الفنّانين الذين ينتمون إلى مختلف الأساليب الفنيّة.
وإذا حالفنا الحظ، فقد نلتقي بالكلب الأسود صاحب السّاق المُتعرّجة، الذي يحمل ندوبه ببراءة الأطفال، ويستقبل "الرايح والجايي" في المرفأ البحري، وكأنه المسؤول عن المنطقة؛ هو الشاهد على أصوات الأموات الذين انتقلوا إلى مكان أفضل، ورفيق الأموات الذين بقوا على قيد الحياة.
 
 
الكلمات الدالة

اقرأ في النهار Premium