النهار

بقايا بيروت: Hamra VIntage الغبار "المبارك" للمقتنيات القديمة
هنادي الديري
المصدر: "النهار"
بقايا بيروت: Hamra VIntage الغبار "المبارك" للمقتنيات القديمة
لقطة من داخل Hamra VIntage. (هنادي الديري).
A+   A-

مُغامرات في شارع الحمرا للاستمتاع مُجدداً ببعض قصص دمّرها الزمن وحوّلها ذكريات تتألّق مثل النجوم البعيدة على هامش حياتنا. رحلة استكشافيّة إلى الماضي أو أقلّه، مُحاولة صادقة لاستحضار ما تبقّى من عراقته.

 

إلى شارع المقدسي الموازي شمالاً لشارع الحمراء في رأس بيروت الجميلة كعاشقة ما زالت تسمح لنفسها بالإنغماس في تنهيدات البدايات، على الرغم من تراكم آثار القصص على وجهها المُشرق.

 

 فنجان شاي ودردشة طويلة في حديقة سريّة تتخذ شكل متجر عتيق مليء بالـ"أنتيكة"، النظارات الشمسيّة، الساعات، الأكسسوارات، حقائب السفر وحقائب اليد التي "تتبختر" سيّدات المُجتمع على أنغام "شياكتها"، القبعات الزاهية والأخرى المصنوعة من الجلد الأصلي وكانت تُستعمل في أفلام (رُعاة البقر cowboy)، الأحذية طويلة الرقبة، المصابيح، أقراط اللؤلؤ، الثريّات، وآلة كاتبة تروي يوميّات بطلة تسبح عارية في قصص الحُب التي تعيشها بلا ملل أو خوف من نهايتها المحتومة.

 
 
بالنسبة إلى غسان حوري، فإن متجره Hamra Vintage "المُتخم" بمئات المُقتنيات القديمة، أشبه بالملاذ الآمن الذي يُريحه من العالم الخارجي غير المُستقر. ولا يُرهقه هذا البحر الشاسع من الكماليّات التي لا تسمح للنظر بلحظة عابرة من الراحة، بل يعتبر أنها في الواقع من تحمي عينه من شعوذات هذا الكون السرّي.
 
 
 
يقول إبن العين البقاعيّة ببساطة بين نظرة إعجاب وأخرى إلى القصص المُتكدسة بين غبار الماضي، "هذه المصلحة، أحبّها كثيراً. عشقتها باكراً. وبالمصلحة أعني بطبيعة الحال تجميع المقتنيات القديمة المُستعملة. وكانت مسألة طبيعيّة أن أجمّع مُختلف الكماليّات بهدف شخصي في المراحل الأولى. أسفاري كانت مُتعددة، ولكنني اخترتُ العودة نهائياً إلى البلد في تسعينيات القرن الماضي. كانت أحوال البلد، آنذاك تُنبئ بالخير. تزوجتُ وانطلقتُ في هذه المصلحة بلا خوف من الغد. رحتُ أكثّف زياراتي إلى الهواة الذين تخصصوا في هذه الكماليّات أو تلك لأختار ما يروقني من مجموعاتهم. وصارت مجموعتي تكبر يوماً فآخر". (تتخلّل كل جملة نظرة إعجاب وكأنه يرى مجموعاته للمرة الأولى. آه! الحب الساحر والماكر عندما يزورنا بطريقة أو أخرى!).
 
 
 
 
 
 
واللافت في هذه القصّة المُشوّقة، أن حوري كان يُصرّ على تجميع الكماليّات التي كانت تُعجبه وتلفت نظره فقط، ولا يُعير الأخرى التي لا يعيش بفضلها لحظات إفتتان غير عابرة، أي انتباه. والأهم، إنه رفض طوال هذه السنوات أن يقتني الكماليّات غير الأصليّة، "أردتها منذ البداية (أوريجينال) أي في حلّتها الأصليّة".
وفي العام 1992، استقرّ في شارع المقدسي التاريخي، مع الإشارة إلى أن زوجته دعمته في شغفه ولم تُمانع في أن يُضاهي ديكور المنزل العائلي "جنون" المتجر الأشبه بصندوق عميق تقطن فيه الأسرار. يضحك حوري عندما يرى تعابير وجهي "المشدوهة" ويؤكد أن هذه "الماكسيماليّة" غير المروّضة حاضرة بدورها في المنزل!
 
 
 
يُعلّق قائلاً: "لم أفتتح المحل إلا بعد تجميع أعداد هائلة من الكماليّات القديمة". وبعد 30 عاماً، يؤكد بفخر بأنه يحفظ مكان كل الكماليّات، "بلا ما غلِّط. الله أنعم عليّ بذاكرة قويّة وأستطيع أن أجد كل ما أبحث عنه بسرعة وبلا خوف من الأعداد الهائلة من المُقتنيات". يصمت قليلاً قبل أن يضيف: "حقائب اليد هذه المُعلّقة في تلك الزاوية، على سبيل المثال، تعود إلى خمسينيات القرن الماضي، وكانت تُستعمل في أضخم الإنتاجات السينمائية في مصر".
 
 
 
والمُفاجئ أن الجيل الشبابي أكثر من يبحث عن هذه المُقتنيات التي يكسوها الغبار وتتربّص القصص خلف كل شبر منها. "تصوّري أن أبناء الـ15 يعشقون هذه الكماليّات والبعض يُريد بأي ثمن أن يضمّها إلى مجموعاته. أكثر الذين يعتبرون المحل منزلهم الثاني تقع أعمارهم بين الـ15 والـ35 عاماً".
 
 
 
وصحيح أن الأسعار أصبحت اليوم بالدولار الأميركي، بيد أن كُثراً يرون في هذه الكماليّات "فشة الخلق" التي يحتاجون إليها ويتمسّكون بوعودها وكأنها الحزام السحري الذي يحمي من يرتديه. "لا أربح أي شيء مع أن الأحوال أجبرتني على تسعير المُقتنيات بالدولار. الشباب لا يملكون الكثير من المال، ولكن شغفهم يدفعني إلى تلبية طلباتهم وإن كنت أخسر. قررتُ أن أبيع كل الكماليّات، وإن إستمرّ الوضع بهذا السوء، سأقفل المحل".
عندما أضحك بصوت عال قائلة: "بس لتبيع كل هالقصص بدّك سنين طويلة!"، يبتسم بدهاء قائلاً: "تماماً!".
 
 
 
غسان حوري يجلس لساعات طويلة في Hamra Vintage، ومع ذلك لم يشعر يوماً بالملل، أو حتى "بالاختناق" من كثرة الكماليّات التي تُحيط به. "مع مرور الوقت، صرتُ أكثر من قادر على تصليح الكماليّات وإعادتها إلى حالتها الأصليّة. ومن هذا المنطلق قد يمضي الوقت وأنا مُنهمك بإعادة تشغيل كل ما مرّ عليه الزمن وتسبّب له بأي ضرر. أتسلّى كثيراً، والزبائن يُردّدون باستمرار أنهم يشعرون بسعادة كُبرى لدى زيارتي. وفي الحقيقة: كل ما أملكه أكثر من جميل! لا أتعامل مع الكماليّات الحديثة. لا تهمّني. أبحث عن القديم وكل ما تُسيّجه القصص. هذه المُقتنيات وصلتني من كل أنحاء العالم. وأشدّد على أنها في حلّتها الأصليّة – ما في تقليد –".
 
 

ولأن البلد يعيش اليوم عواصفه المروعة، فقد أصبحت مسألة طبيعيّة بالنسبة لحوري أن يجلس بمفرده وسط القصص المُتربصة خلف "كماليّاته"، "بلا ما يفوت ولا زبون. ولكن لا أسمح لهذا الأمر أن يُزعجني. أتسلّى. الأولاد كبروا ولم تعد مسؤولياتي العائلية كبيرة. نعيش أنا وزوجتي بهدوء في منزل قديم أدخلنا إليه بعض لمسات حديثة ولكننا حافظنا على حالته الأصليّة. على سبيل المثال، أملك في المنزل آلة بيانو عمرها أكثر من 150 سنة".

ولأن "هذه المصلحة" تحوّلت مع الوقت صديقة أجمل الأيام وأكثرها سوداويّة، يعترف حوري بأنه يقتني العديد من الكماليّات التي يرفض أن يبيعها. "أحتفظ بها في المحل. لا أستطيع أن أتخلى عنها".

ويزوره المئات من كل أنحاء العالم، وقد سمعوا عن محلّه غير المألوف في شارع الحمراء التاريخي، أو اكتشفوه عبر حسابه الشخصي على "إنستغرام"، أو ربما قرأوا عنه في التحقيقات العالميّة التي يُريدها هذا الصحافي أو ذاك صلة الوصل بين عشّاق السفر وعاصمة جريحة تُدعى بيروت.

"هذا الأسبوع، على سبيل المثال زارني بعض الأشخاص من إندونيسيا وهولندا وقد اكتشفوا المحل من خلال حضوري على إنستاغرام".

وفجأة، في نهاية الحديث، أسأله بـ"لهفة" وبطريقة "عشوائيّة:"هودي كيف بتنظّفن؟"، يضحك بطريقة غير مكبوحة، ويهز كتفيه قائلاً، "والله ما كتير بنظّف! بتركن متل ما هنّي!".

 

[email protected]

الكلمات الدالة

اقرأ في النهار Premium