النهار

ميبونجيني بوثيليزي يُحوّل نفايات البلاستيك لوحات فنيّة شاهقة
هنادي الديري
المصدر: "النهار"
ميبونجيني بوثيليزي يُحوّل نفايات البلاستيك لوحات فنيّة شاهقة
ميبونجيني بوثيليزي يُحوّل نفايات البلاستيك لوحات فنيّة شاهقة.
A+   A-
"أفضل ما يُمكنني فعله مع هذا البلاستيك هو جمعه ووضعه في الأستوديو الخاصّ بي لخلق قطعة فنيّة منه، أو لتحويله عملاً فنيّاً هادفاً. المسألة لا تتمحور على الانتقاد أو إطلاق الأحكام القاسية على الآخرين. هي بكلّ بساطة دعوة أو مُحاولة جدّيّة لفتح حوار معهم من خلال الفنّ".

كما هي الطريقة الفضلى لتسليط الضوء على كلّ الفظائع التي تنبع من إصرار الإنسان على التدخّل في ما لا يعنيه.
 

وبعد ما يُقارب الـ 31 سنة من المواجهات الحميميّة (الضارية؟) مع مادة البلاستيك، أو النفايات البلاستيكيّة، وصل الفنان جنوب الأفريقيّ، ميبونجيني بوثيليزي إلى مكانة مرموقة في عالم الفنّ الهادف الذي يستريح على رسالة نبيلة يُقدّمها تحيّة زاهية إلى الطبيعة نيابة عن الإنسانيّة جمعاء.

ميبونجيني بوثيليزي يتوسّل منذ بداياته المُتواضعة بالنفايات البلاستيكيّة على أنواعها وفي باله زيادة التوعية على أهميّة إعادة التدوير التي قد نستخفّ بها، ولكنّها في الواقع قد تُنقذ بيئتنا التي أسأنا التعامل معها ولم نرحم جمالها الهشّ.
 

 وهو يخلق مئات الأعمال الفنيّة التي لا تنتمي بالضرورة إلى الاتّجاه الفنّيّ السائد، ويصفها بالـ "كولاج البلاستيكي"، حيث يتحوّل البلاستيك إلى طلاء في حدّ ذاته، إذ أنّ بوثيليزي يُذوّبه قليلاً (أو بالأحرى يُخفّف من صلابته)، بواسطة "فرده" الكهربائيّ، فإذا به يُعالج الطلاء البلاستيكيّ المُتعدّد الألوان على "الكانفا" كبيرة الحجم، ويتعامل معها كأيّ فنّان يتعامل عادةً مع الطلاء "الكلاسيكيّ" لينقل أحاسيسه أو ليُعبّر عن حنايا روحه.
 

ميبونجيني بوثيليزي يُسخّن البلاستيك المُلوّن وينتقل مُباشرةً إلى الرسم على "الكانفا" أو القماشة القطنيّة التي قد تكون مُغطاة بدورها بالبلاستيك السميك. ولهذا السبب قد يحتوي العمل الفنّيّ الواحد على أكثر من 5 آلاف قطعة من البلاستيك.

وتقنيّته تمزج ما بين الواقعيّة والتجريديّة، مع الأخذ في الاعتبار أدقّ التفاصيل وكثافتها في اللوحة الواحدة.
 

وكان واضحاً خلال أحاديثنا الافتراضيّة أنّ هذا الرجل الوقور يتعامل مع كلّ شيء من مُنطلق فنّيّ إن كان في اختياره للكلمات لوصف عالمه السرّي المؤلّف من نفايات بلاستيكيّة تتحوّل روائع أكبر حجماً من الحياة (بالمعنيين الحرفي والمجازي)، أو من خلال أسلوب حياته الأنيق.

يقول لنا ما بين سؤال وآخر، "أعتبر نفسي محظوظاً لأنني تمكّنت من اختبار الحياة في قرية نائية (كوازولو) وأيضاً الحياة المدنيّة الصاخبة. وفي نظري فإنّ هذه التجربة الغنية تجلب معها توازناً جميلاً ينتقل لا شعورياً إلى العمل الفنّيّ".
 

وفي طفولته كان المُشرف الرئيسيّ على ماشية والده المؤلفة من حيوانات صعبة المراس يفوق عددها الـ 60. وخلال هذه الفترة التي طبعت مُخيلته، تعرّف الصبيّ إلى شقاء الحياة وقوانينها القاسية، وكان عليه أن يبحث، صغيراً، عن ما يُشبه حياة عاديّة مع الأخذ في الاعتبار الموارد القليلة التي كانت في مُتناوله.

ويؤكّد أنه تعلّم أهم الدروس الفنيّة والحياتيّة في آن خلال طفولته الصعبة هذه، وخلقت هذه الأيام ركيزة صلبة ما زال يتمسّك بها ويستفيد منها اليوم كفنان، وأب وإنسان.

وهو بكل تأكيد، يذكر العمل الفنّيّ الأول الذي وُلد بفعل تقنيته الفريدة من نوعها هذه، "ولكن لسوء الحظّ لم يعد في حوزتي. وإذا لم تخنّي ذاكرتي، كان عبارة عن بورتريه غير ناجح، أقلّه في نظري، ولكنّه كان محوريّاً في رحلتي المُستمرّة حتى يومنا هذا".

ولأنّه ترعرع في قرية نائية، كانت مسألة طبيعيّة ألا يتواجد الأولاد في المنازل، إلّا نادراً، إذ أنّ الطبيعة كانت كريمة بفسحاتها وحدائقها السريّة.
 

"وكنت والأصدقاء نمضي الوقت في الحقول. نُشرف على يوميّات الماشية، وخلال أوقات الفراغ، كنا نصنع المنحوتات من الفخّار برموزها التي تغمز إلى المُقاتلين والماشية والغنم والماعز. كانت هذه الرموز تقليديّة نظراً لنشأتنا. ولحسن الحظ، تمكّنت بعدها، عندما غادرتُ مرحلة الطفولة من إتمام دراساتي الفنيّة في جامعة مرموقة ولم أتوقف عن تعزيز معرفتي مذّاك".
 

وبالإضافة إلى النفايات البلاستيكيّة، يتوسّل هذا الفنان المتواضع والهادئ بالفحم ليُنجز بعض الرسوم كما يستعين بالألوان المائيّة. وتشمل تجربته الطباعة الفنيّة. ولكنّه اختار أن يركّز بشكل مُكثّف على العمل مع النفايات البلاستيكيّة لأنّه بكلّ بساطة لا يرى أيّ فائدة من حصر نفسه داخل الإطار الفنّيّ التقليديّ. كما أنّ الأدوات غير التقليديّة التي بإمكاننا أن نستعين بها لنُعبّر عن مخاوفنا، لا تقلّ أهميّة من الأدوات المُعتمدة الأخرى.

"وبالنسبة إليّ، ليس من الضروريّ أن نُحبّ العمل الفنّيّ أو حتّى أن نُعجب به جميعنا. ما يهمّني هو تسليط الضوء على دور التوعية لدى تعاملنا مع المخاطر التي لها علاقة مُباشرة مع التغيّر المناخيّ في عالمنا اليوم".
 
 
صحيح أنّه يجوب العالم، بما فيه العالم العربيّ حيث هو زائر مُرحّب به، لينشر رسالته السامية هذه، بيد أنه لم يُغادر جنوب أفريقيا، وهو يقطن حالياً في جوهانسبرغ حيث يوميّاته وطقوسه في الأستوديو الخاص به.

 نهاره يبدأ باكراً، "ما بين السابعة والثامنة. ولا أعود إلى المنزل قبل حلول ساعات المساء الأولى". وهذا الأستوديو الأشبه بملاذه غير العادي مُتصل بمصنع كبير.

ويروي ميبونجيني أنه ما زال يسير في الشوارع مطوّلاً بحثاً عن النفايات البلاستيكيّة التي بإمكانها بكلّ سهولة أن تُصبح أعمالاً فنيّة رائعة في جمالها ورسالتها الخفيّة.
 

 لا يملّ من البحث في القمامة، آملاً في إيجاد أكثر من نوع من البلاستيك. وبعض الأشخاص يقدّمون إليه نفايات البلاستيك التي يعرفون تماماً أنها تعني له أكثر بكثير من الهدايا العاديّة. وهو يُحوّلها قطعاً صغيرة يلصقها على "الكانفا" ليخلق ركيزة صلبة للعمل الفني وينتقل بعدها إلى تزويدها أشكالاً وألواناً بواسطة "الفرد الإلكتروني" المحشو بدوره بالبلاستيك المُلوّن.

تبدأ عندئذٍ عمليّة التذويب لخلق الفروق الدقيقة.

ولا تنتهي إلّا بعد ساعات طويلة يُريدها هذا الفنان الهادئ التعبير الأقصى عن نُبل الطبيعة وجرحها العميق من تدخّل الإنسان المُتكرّر لمسارها الطبيعي.

ميبونجيني يتوسّل بما يُقارب الـ 18 تقنيّة اليوم، ولا يُريد أن يهجر النفايات البلاستيكيّة Anytime Soon (في أيّ وقت قريباً).
 

وفي حين، كانت، بدايةً، وسيلته الوحيدة في التعبير الفنّيّ نظراً لإمكانياته المحدودة آنذاك، بيد أنّها تحوّلت مع مرور الوقت، رفيقة الأيام في الأستوديو وخارجه.

وهو مُصرّ على أن تُرافقه النفايات البلاستيكيّة في رحلته الأنيقة والسامية لإنقاذ كوكبنا من الإنسان وتدخّله المُتكرّر في كلّ ما لا يعنيه.

                                [email protected]                               


الكلمات الدالة

اقرأ في النهار Premium