النهار

"نحن وهم يا صديقي"
"نحن وهم يا صديقي"
A+   A-
وهمٌ جميل تماماً كالحياة، والناس في شارع مار خايل يتقدّمون نحو ما تبقّى من أيامهم، والفنان السوري الشاب كاميران خليل المُقيم في برلين يقول لي "أنا واللوحة في حوار دائم، حيث تقول شخوص لوحاتي أحياناً: نحن وهمٌ يا صديقي". وهمٌ جميل تماماً كالحياة.
 
الناس في شارع مار مخايل يدّعون الاسترخاء، وقد طلبوا من قلقهم المُزمن أن "يكتم صوته"، ولو لهُنيهات، لعلّهم يتواصلون مجدّداً مع دقّات القلب المُتقطّعة.
 
وفي فُسحة Mission Art Beirut المُتخصّصة في الفن القادم من الشرق الأوسط، الحديث مع كاميران حميم تتخلّله "طراطيش لا يُستهان بها" من الروحانيّة. فإحدى هواياته مُراقبة مُحيطه. ومن هذا المُنطلق، لا شيء يفوته. بعد ساعات قليلة، يعود إلى برلين، العاصمة المجنونة التي تضحك بحرارة على الحياة، بالرّغم من أنها تقف أمامها على رؤوس أصابعها مُدّعية السلوك الهادئ والمُنضبط.
 
 
 
فلنستغلّها فرصة، إذن، ونغوص في الحديث مع هذا الشاب الذي يُخفي خلف الهدوء الظاهريّ وتعابير الوجه المينيماليّة قدرة هائلة ومُقلقة على فهم الطبيعة البشريّة... والحياة، هذا الوهم الجميل الذي نُغازل أطرافه، ولكننا فعلياً لا نستطيع أن نتمسّك بثوبه الحريريّ.
 
ولكنّنا نُحاول. وكاميران يؤكّد أنّ الوهم هو "خلق لواقع جديد، درجة أخرى من درجات الوعي! أمام هذا الوعي، يغدو الواقع/ واقعنا ضبابياً...".
 
القيّمان على هذه الفُسحة الأنيقة غيّاث المشنوق وتوفيق الزين يستقبلان الزوّار. يا أهلاً بالذين ما زالوا مُتمسّكين بإيقاع العاصمة، التي ملّت البكاء على أيّامها الأولى، وُتريد بأيّ ثمن أن تقتحم السلالم غير المرئيّة التي تؤدّي إلى بيت الأوهام.
 
 
آه! ها قد عدنا مُجدّداً إلى الوهم، وبطبيعة الحال هو العنوان الذي اختاره الشّاب لهذا المعرض غير المُريح.
 
"الوهم" عنوان يدخل القلب مُباشرةً على الرغم من أن الأعمال، التي تأتي بأكثر من حجم، ليست "ورديّة الهوى"؛ فهي قد تكون - بحسب الشاب - الانعكاس لحنايانا، ولم لا الامتداد لروحنا المسكونة والمعذبة.
 
تخرّج في كلية الفنون الجميلة في دمشق العريقة التي تعقص شعرها بما تبقّى من دلال عاشقة "هدّها" الزمن، ولكنه لم يتمكّن من أن يُروّض جموح روحها.
 
 
لطالما سحرته الفلسفة، وهذا الفاصل المؤلم بين الحياة والموت. كان على يقين من أن الأسئلة، التي يُريد أن يُعالجها في أعماله غير المُريحة، ليست سهلة. ولكنّه أصرّ على الغور في العوالم غير المرئيّة التي تستريح على الفلسفة التي أغوته باكراً.
 
وهذه الأعمال المُنتشرة بأكثر من حجم على جدران الفُسحة المُسيّجة بشبابيك عالية قد تطلّ على بعض مشاهد من العاصمة الثائرة على الانكسار، تُعالج الوهم. فهذا الموضوع سحره بدوره باكراً، والشخوص غير المُريحة التي تقطن الكانفا تستقبلنا، وتطلب منا في الوقت عينه أن نستقبلها بدورنا. نردّ لها الجميل. لا تدّعي الليونة، ولا تعدنا بزيارة "مفرفحة"، بل تُعلمنا سلفاً بأنها ستُشرّح روحنا الشبر يليه الآخر. ستُربكنا. تُبعثر تعابير وجهنا شبه الهادئة. تكاد تصرخ على طريقتها، "عرفوا شو ناطركم!".
 
 
وكاميران يرى أن الإنسان، عندما يصل إلى مرحلة مُتقدّمة في الوعي، يُصبح أكثر من قادر على خلق عالمه الشخصيّ؛ عالم يستريح على الوهم، ولكنه لا يغرق فيه. الشخوص في أعمال كاميران تمكّنت من تكوين عوالمها الخاصّة. ولِمَ لا تكون الامتداد الطبيعي وغير المريح لعوالمنا الداخليّة! نحن الذين نخشى الوهم، وفي الوقت عينه نتعلّق به، وكأنه آخر ما تبقى لنا من حياة خذلتنا منذ اللقاء الأول. ومع ذلك، لم نتخلَّ عنها. لعلّ وعسى!
 
وفي بعض الأعمال، سُرعان ما نفهم بأن الشخوص غير المُريحة التي تقطن الكانفا تمكّنت من بناء أكثر من عالم. فهل نستطيع أن نجزم بأنّها تالياً قد نجحت برسم أكثر من صورة للوهم، أم أنّها نقلت معها الوهم عينه من عالم إلى آخر؟!
 
 
لا يهمّ. عالمنا يُقابل عوالم الشخوص المُقلقة، التي لا تُنذر بالضرورة بالخير. وبعد الانطلاقة الأولى في سوريا الجميلة بندوبها، وبعد إطلالة مميّزة في فُسحة "آرت هاوس" العريقة، التي حوّلها غيّاث المشنوق إلى أهمّ غاليري للأعمال الأنيقة، أراد كاميران أن ينتقل إلى الغرب ليفهم أسلوبه في التعامل مع الفنّ؛ ولِم لا طريقته في التعبير عن الوهم؟ هذه الأغنية الجميلة التي تعدنا بمآسٍ هي في الواقع خبزنا اليوميّ. فكانت شهادة الماجستير في أعرق جامعة في برلين.
 
يرسم في كلّ الأوقات. أحياناً تزوره الأوهام بطيفها المهيوب بعد منتصف الليل. وبرلين، قدّمت له الفرصة ليعيش الحريّة بسياجها المُخمليّ. ونراه "يُفرّغ" هذا الجنون الداخليّ، الذي يقطن روحه، ومن بعدها يحتاج إلى المشي لساعات، ولو في وقت مُتأخر من الليل، في شوارع برلين، التي قدّمت له الأمان، ولكنها لم تُنسِه سوريا، الحبيبة الأولى، التي ما زال يذكر كلّ تفصيل من قصّته فيها.
 
 
وعندما يرسم الوجوه المسكونة بشيء ما لا يُمكن فهمه، ينطلق من نفسه في الدرجة الأولى قبل أن ينتقل كلّياً إلى العالم، أو العوالم التي يخلقها في الساعة. قبل أن ينصاع إلى رغبات العوالم التي أخذت على عاتقها أن تتعالى على رغبتنا في التعلّق بالحلم. ينطلق من وجهه، وربّما من روحه. وبرلين قدّمت له فرصة مُراقبة الآخرين بهدوء، وبطريقة غير مُباشرة. كاميران خليل يُشرّح المجتمع، يغوص في كلّ شبر من وجوهه التي تُحاول الاختباء عبثاً.
 
يُسافر كثيراً. يتنقّل في أوروبا. السفر أصبح حاجة مُلحّة. لا بدّ لكاميران من أن يكتشف العوالم الأخرى التي تُحيط بنا. وبطبيعة الحال، فإنّ مراقبته الثاقبة للمجتمع تنتقل بطريقة أو بأخرى إلى الأعمال، فتولد بفعلها الشخوص غير المُريحة، التي قد تكون الامتداد الطبيعيّ لنا، والانعكاس لعالمنا الداخليّ. وهذه المُراقبة الدقيقة للمجتمع جعلته على يقين من أن الإنسان هو نفسه أينما وُجد.
 
 
الإنسان بحسب كاميران يخلق - إذا أراد - عالمه، أينما وُجد في العالم. الإنسان يستمدّ ربما القوّة - إذا أراد - من الوهم المُتربّص خلف كلّ ما نُحاول القيام به. هرباً ربما من هذا الفاصل الجميل بين الحياة والموت؟
 
هذا المعرض هو "مغامرة وجوديّة لهيكلة عوالم أخرى موازية من خلال اللجوء إلى الوهم الذي يتحوّل من حين لآخر في جانبه الفنيّ إلى صراع بين محاولة الكتلة/ المثقلة بالوهم في إزاحة فراغ اللوحة/ المحيط".
 
كاميران خليل في حوار مستمرّ مع لوحته.
 
وأحياناً، تلتفت إليه الشخوص غير المُريحة التي هي الانعكاس لروحه، وربما الامتداد الطبيعي لها. وتقول له:
 
"نحن وهم يا صديقي".
 
وهمٌ جميل تماماً كالحياة.
 

اقرأ في النهار Premium