كان هدفه من هذه المُغامرة المجنونة التي استمرّت أسابيع طويلة، أن يُقرّب لعبة الشطرنج باستراتيجيّاتها الأشبه بإغواء "سيّئ النيّة"، التي تملك في الوقت عينه قدرة هائلة ومُقلقة على انتشالنا من أحزاننا وتهدئة معاركنا الصغيرة مع الواقع، من كل الذين يُبالغون في إعطاء الحياة تلك القيمة التي لا تستحقها بالضرورة.
كانت بالنسبة إليه الطريقة الفضلى ليعطي الدور المحوري للملكة التي ربما تصرّفت أحياناً بطريقة غير أنثويّة تماماً، بيد أنها تُدرك جيداً أن أولويّتها حماية الملك و تقديم الطاعة لهالته وقامته المهيبة، وإن كانت المسألة تتضمّن القليل من المُبالغة والمُراوغة، ومواجهات ضارية هي في الواقع التعبير الأقسى عن الحبّ. أما الجنود، فكانت حركاتهم وخطواتهم على الرقعة التي تحوّلت حديث الساعة طوال أسابيع طويلة، فكانوا الانعكاس الحقيقي بالنسبة لهذا الشاب المرح لكيفيّة تعاملنا مع الأشخاص الذين نُشاطرهم الأيام والأنفاس.
وأين المشكلة، إذا أخطأنا في حركة من هنا، أو أخطأنا في حساباتنا غير المدروسة؟
نخسر معركة صغيرة بهدف الانتصار في الحرب الكبيرة التي نخوضها بما يُشبه الثقة، أو ما يُشبه الانكسار.
في الحالتين، ستكون قصّة طريفة تُروى.
وهكذا انطلق الشاب الأميركي فيليب هايدن منذ أشهر قليلة على درّاجته الهوائيّة، مُنتقلاً من ولاية أميركيّة إلى أخرى، واضعاً خبراته وأسلوبه المُسترخي في التعليم في تصرّف الكبار ومن لم يحن الوقت بعد لينتقلوا من قمقم الأحلام المستحيلة إلى حيث المسؤوليات التي لم يتم اختيارها بالكامل وفقاً لنزواتنا، بل حلّت علينا كالصاعقة من دون أن تأخذ في الاعتبار أنها أكثر واقعيّة من قدرة البعض منا على التحمّل.
رافقته رقعة الشطرنج وروحه المرحة. وعندما كان يصعب عليه التنقل بواسطة دراجته الهوائية، كان الباص يفي بالغرض. المهم بالنسبة لهذا الشاب الذي كان الحديث معه إلى نيويورك مُمتعاً بفعل النوادر الصغيرة التي أراد مشاطرتنا بها، أن يفهم الناس أن هذه اللعبة التي لطالما خاض عليها المجنون والشغوف والهاوي والحالم على حد سواء كل حروبهم بشراسة هادئة تسمح قوانينها بتأمل العدو باستمتاع خبيث، سهلة المنال، وليست بالصعوبة التي يُريدنا البعض أن نتوهّم.
أطلق على هذه المغامرة التي يكثر الحديث عنها في الولايات المتحدة، اسم Bicycle Chess Tour (جولة الشطرنج على الدراجة الهوائيّة)، وقدّم من خلالها دروساً مجانيّة في لعبة الاستراتيجيّات "الشهيّة" هذه في المخيّمات والنزل والحدائق العامة.
يروي بأسلوبه المُسترخي أن قصته مع لعبة الشطرنج بدأت في عام 2020 عندما قرر أن يتعلّم أصولها وقوانينها من خلال كتاب عتيق مُستعيناً بالدروس المجانيّة التي نجدها بالآلاف عبر الانترنت. وأكثر من عزّز من حبّه للشطرنج هو الفلسطيني - اللبناني المقيم في نيويورك منذ أكثر من 30 عاماً، عماد خشان، صاحب آخر منتدى للشطرنج في نيويورك الخليلة، إذ جرت العادة أن يزوره في فسحته الحميميّة القائمة في شارع طومسون الشهير، وكُتبت عنها مئات القصص والمقالات ليدوّن بعض فصول من قصته مع لعبة الاستراتيجيات التي تستريح على الصمت الكاذب والابتسامات الخبيثة المُستترة.
وسُرعان ما اكتشف أن حلمه الصغير أن يُنشئ ما يُشبه النادي المُتنقل الذي لا يستقر في مكان واحد بل يتعامل مع كل الولايات وكأنها مسرحه الجوّال. وكانت نقطة الانطلاق من نيو هامبشاير إلى فرمونت وصولاً إلى نيويورك الجميلة بتهوّرها وجموحها. وتعددت بعدها الولايات، وتحوّلت المغامرة مئات القصص الطريفة التي تُروى في اللقاءات وعبر وسائل الإعلام لكونها الطريقة الفضلى التي أرادها فيليب هايدن أن تكون التعبير الأقسى عن عشقه للعبة الاستراتيجيات هذه التي تعلّمها في سن متأخرة نسبياً، بيد أنه حوّلها قصّة إنسانيّة تعلّم بفضل فصولها المُتشعّبة كم أن الغرباء مُستعدون لمساعدة شاب مجنون لا يُريد بالضرورة أن يُغيّر العالم، إذا ما وجد نفسه في مأزق صغير هنا وآخر هناك في الولايات التي زارها لينشر حب الشطرنج بين الناس.
فإذا بهم يُقدمون له الطعام والمشهّيات وابتسامات مُشجّعة تدعم مغامرته غير الاعتيادية وتكاد تقول على طريقتها: "هيّا حقق كل ما لم نتجرّأ نحن على أن نحققه".
لم يخش المسافات الطويلة التي عبرها على دراجته الهوائية.
كانت روحه مسكونة بالمغامرة وهذا الإصرار على جعل الشطرنج أكثر من ساحة معقدة بقوانينها نخوض عليها حروبنا الضارية. أرادها أن تكون الطريقة الفضلى والمُسلّية والمُشوّقة لنفهم الطبيعة الإنسانيّة.
وما إن انتشر خبر هذه المغامرة المليئة بالحروب والانتصارات والهزائم، حتى وظفته أكاديميّة مرموقة في نيويورك مخصصة لتعليم لعبة الشطرنج، بعدما كان يعمل سائقاً للأجرة، ولا يحلم بالضرورة بتغيير العالم.
جلّ ما أراد، هو أن يقترب الناس بضع خطوات من لعبة تضطلع بها الملكة بدور الحاضنة للملك البهيّ والمدمّرة له في آن واحد.
أما الجنود، فهم بطبيعة الحال، وفق هذا الشاب المرح، الامتداد الطبيعي لعلاقاتنا مع كل الذين نحاول عبثاً أن نهزمهم ونتغلب عليهم. ولكننا سنواجه الفشل باستمرار، إن لم نفهم، بحسب ما يؤكد فيليب هايدن، تماماً كلعبة الشطرنج، أن المسألة ليست شخصيّة، بل هي لعبة تستريح على الاستراتيجيّات فحسب، ينتصر فيها كل من يستطيع التحكّم بانفعالاته، وكل من يفهم أن خسارة معركة صغيرة لا تعني بالضرورة خسارة الحرب.