لِمَ لا نصفه بالحكواتي الذي يفهم جيّداً أبعاد كلّ ما يجري من حوله، والذي وجد في الرسم الطريقة الفضلى ليُترجم إدراكه بأسلوب لامع، مُتوهّج، ومُزخرف بألوان ساطعة؟!
ولِمَ لا نستمتع بهذه الصباحيّة في الفُسحة الأماميّة لغاليري
Art سScene القائمة في شارع الجميزة، من دون أن نغور كثيراً في كلّ التفاصيل والأحاسيس التي تتربّص خلف لوحات ضخمة تجذب المارة إلى تمرّدها المُتقن في داخل الفسحة المُسيّجة بواجهات زجاجيّة كبيرة؟!
لا بأس بفنجان قهوة ودردشة في فُسحة تحوّلت حديقة سريّة، تُشرف على الطريق العام، فتسمح لنا بأن "نرصد" تحرّكات الشارع وجنونه، من دون أن "نُعرّض أنفسنا للكثير من "التشريح".
يُمكن لطاولة صغيرة في الزاوية، التي تصلنا بالفسحة والشارع في الوقت عينه، أن تؤمّن لنا الحميميّة التي نحتاج إليها لنتحدّث عن مختلف الموضوعات فنفهم تالياً كلّ ما يجري خلف فرشاة الرسم.
وكَم من حربٍ يخوضها الفنّان بشكل مُستمرّ وهو يُحاول أن يُترجم كلّ ما يحدث من حوله!
الناس يرحلون، والفنّان العراقي رياض نعمة (بغداد – العراق العام 1968) يروي عشرات من القصص، قد يكون الرحيل ركيزتها الحاضنة، إلا أن الأكيد أنه يُعيد إلى الإنسانيّة رونقها ويُعطيها حقّها، ويردّ لها اعتبارها.
اختار عنوان: "وأنا الذهاب المُستمرّ إلى البلاد"، انطلاقاً من قصيدة الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش، "أحمد الزعتر"، وممّا جاء فيها:
"وأنا البلاد وقد أتت وتقمّصتني
وأنا الذهاب المستمرّ إلى البلاد
وجدتُ نفسي ملء نفسي".
الناس يرحلون، وأحياناً يُطلب منّا بدورنا أن نرحل، وإن كان الرحيل يتجسّد بسفر داخليّ. ومن الواضح أن المُدن تُزوّد هذا الفنان الذي يُخيّل لمن يُجالسه بأنه لا يستطيع الانتماء إلى مكان مُحدّد، بتجارب غنيّة؛ هو الذي ينتمي إلى جيل من فنّانين عبّروا عن مكنونات الروح وسط الخوف والعذاب والخضّات السياسيّة.
ووُلدت على الكانفا تناقضات ساحقة في الألوان وألحان مرئيّة قد يكون شغلها الشّاغل تصوير خفايا أشعة الشمس "الباردة" (هو عنوان إحدى اللوحات)، أو المرأة التي لا تخشى المواجهة، فتستحق تالياً لقب المُناضلة. ويختار أن يصف إحدى اللوحات بجملة مأخوذة من قصيدة للراحل محمود درويش، "لم يعرفوني في الظلال التي تمتصّ لوني في جواز السفر".
وكأنه من خلال لوحاته، التي تجذب المارة بشكل تلقائيّ، نظراً إلى حضورها القويّ خلف الواجهات الزجاجيّة، يتخطّى القمع والكراهية وتفاصيل مؤلمة أخرى تعرّض لها كلّ من تجرّأ على مواجهة نظام الرئيس الراحل صدام حسين، في وقت انتمى رياض نعمة إلى جيل من الفنّانين المُتفوّقين، اختاروا التمرّد بوساطة مواهبهم.
يُقيم نعمة في بيروت، العاصمة التي يروقه جنونها وتقلّبات مزاجها والخضّات المُتتالية التي تتعرّض لها.
هنا الحياة التي يحتاج إليها أيّ فنّان ليكون لعمليّة الخلق معنى أكبر حجماً من مجرّد الهذيان على الكانفا.
والتجارب والمشاهد والصّور التي تعبر أمام الفنان، يومياً، تسمح له بأن يُخزّن الكثير ثمّ الكثير من الاحتمالات الإبداعيّة، فإذا بلوحاته تأخذ أبعاداً أقلّ ما يُقال فيها إنّها غريبة... ليست واضحة في رسائلها.
وكأن الفنّان يستفزّنا لنقبل فكرة "الفنّ من أجل الفنّ"، أي الفنّ الذي نُقدّره، من دون أن نفهمه بالضرورة.
ولكن الأكيد أن اللوحات ترتكز على ظلم التهجير الذي بتنا نراه ونلمس إجرامه في أكثر من مكان، وليس حكراً على شعب واحد. ومن هنا التعلّق بالذكريات، وتضخيم الدور الذي يضطلع به الحنين، الذي يحثّنا على البحث عن شتّى السُبل لنعود إلى المكان الذي هجرناه كُرهاً.
واختار الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش على اعتبار أنّه تمكّن من أن يُجسّد عشرات الصور من خلال قصائد مُكثّفة لا تحتاج إلى المطوّلات لتوصل فكرتها، فيشعر نعمة بأنه أكثر من قادر على خلق عشرات المعارض المُتنوّعة انطلاقاً ببعض كلمات من قصيدة أو أخرى زخرفها الشاعر الفلسطيني بروحه الحسّاسة والحرّة في آن.
الحياة تُصبح أكثر جمالاً عندما نرويها قصصاً قصيرة!
ويُقال إن لكلّ واحد منّا عشرات الحكايات، وللفنّان قدرة على التفريغ. والحريّة قد تولد أحياناً من كانفا كبيرة الحجم نرى الأشخاص فيها من الخلف، وهم يسيرون في اتجاه قدرهم.
لاحقاً، عندما أتصل بصاحبة الغاليري المُتخصصة في الأعمال الحديثة، المهندسة الداخليّة والفنانة رانيا حمود، تروي لي بأن الفُسحة انطلقت في العام 2014، في منزل قديم في الأشرفية الجميلة والجريحة، وأرادتها استوديو خاصّاً بها، تعمل من خلاله على تقنية طباعة الصور أو الـprintmaking، وبعد ما يُقارب العامين، "تحوّل الاستوديو إلى غاليري من دون أن أخطّط لذلك سلفاً، لتواجدي الدائم مع فنّانين تُزيّن أعمالهم المشاريع التي عملت عليها".
ومنذ شهر تقريباً، شعرت هذه الفنانة الشغوفة بأنها تحتاج إلى الانتقال إلى الجميزة حيث الحضور الفنّي في هذه المرحلة الانتقاليّة، التي تعيشها العاصمة، غنيٌّ وبارز.
وبما أنها كانت شريكة شقيقها في المطعم الذي عُرف ماضياً بـ"قهوة الزجاج – القزاز" التاريخيّة، جرت العادة أن تعرض حمود بعض لوحات في إحدى الزوايا، وراقت الفكرة كثيراً للمارّة، و"سُرعان ما فهمت كم أنّ الظهور مهمّ بالنسبة إلى الفنان. وراح الكبار والصّغار ينتظرون تبدّل الأعمال أسبوعيّاً في الزاوية التي خصّصتها في داخل المقهى للأعمال الفنيّة. لم يكن الهدف أن يقتنوا البعض منها، ولكن الأعمال جذبت الكثير من الانتباه". أصرّت حمود على أن تعرض أعمال الكبار كحسين ماضي وجميل ملاعب - على سبيل المثال - من دون الخوف من أحكام البعض المُسبقة لوجود لوحات رائعة وشاهقة في مقهى أو مطعم. خلق هذا الحضور حركة جميلة بين المارّة والفنّ وبعض الفنانين الذين عرضوا أعمالهم في المقهى، وحضروا فيه، ولم يتردّدوا في نقل خبراتهم إلى كلّ من يخشى الفنّ ويعشقه، ويعيش قصّة افتتان معه في الوقت عينه.
وبما أنها حلمت طوبلاً في أن تكون لها فسحتها الفنيّة في وسط الشارع التاريخيّ، حوّلت المحلّ الشاغر مُقابل المقهى إلى غاليري، تعتبرها اليوم رانيا حمود طفلها الصغير.
وهي تشهد اليوم على نجاحه، لا سيّما أنّه يبثّ الفرح لدى المارّة الذين تجذبهم فيه ألوان الأعمال وانفعالاتها من ناحية، ولعبة الأضواء في داخل الفُسحة من ناحية ثانية.
"أستيقظ يوميّاً والسعادة تغمرني. لا أصدّق كيف أصل إلى الغاليري. الفُسحة قائمة في نقطة بارزة من الشارع. (وما بتهدأ الحركة فيها). الناس (فايتين – طالعين) وإلى جانبي يتواجد الـArt House. وفي الجميزة الكثير من الأجانب. والشّارع فيه أصالة متميّزة كوزموبوليتانيّة الطلّة".
وها هي أعمال رياض نعمة غير الاعتياديّة تُطلق شرارة الغاليري الأولى، وتجذب المارة إلى جنونها الواضح برسائله المُستترة.
فإلى الـArtسScene القائمة مقابل "قهوة القزاز" التاريخيّة، في شارع يطوي قصّته القديمة ليكتب فوقها قصّة جديدة لا نعرف كيف ستتفتح حوادثها، ولكن، "ما حدن مستعجل".