يكمن السرّ الأساسي خلف استثنائية الشخصية التي نتناولها، في الإستفادة من الوقت وعدم هدره سدىً. لعلّها النصيحة الكبرى التي يعمل بها البروفيسور اللبناني البريطاني نادي حكيم، بجمعه بين الإنجاز العلمي-الطبي وبين هوايتَي الموسيقى والنحت، ليشكّل مزيجاً أوصله إلى العالمية.
البروفيسور ندي حكيم، (65 عاماً) جراح مختصّ بزراعة الأعضاء في المملكة المتحدة. وشكّل جزءاً من الفريق الجراحي الذي أجرى أول عملية زرع يد في العالم في عام 1998. وفي عام 1995، أجرى أول عملية زرع بنكرياس في لندن في مستشفى "سانت ماري" وبدأ برنامج زراعة البنكرياس الأول في جنوب شرق البلاد. وكان عضواً في الفريق الذي أجرى أول عملية زرع كلية في العالم العربي في عام 2003. كذلك، طوّر تقنية زراعة الكلى، وتم تصوير الإجراء في لوحة هنري وارد عام 2010 "استئصال الكلية بمساعدة الإصبع للبروفيسور ندي حكيم". وفي عام 2013، أجرى أول عملية زرع كلية في نيجيريا.
غادر حكيم لبنان في سن الـ16 بسبب الحرب متوجّهاً إلى المملكة المتحدة، لكونه وعائلته يحملون الجنسية البريطانية. "كنت أحلم بأن أصبح طبيباً منذ صغري لكون اسم عائلتي "حكيم"، كذلك أحببت الموسيقى منذ طفولتي لذا تعلّمت عزف الكلارينيت في عمر مبكر"، يروي لـ"النهار".
لم يأخذه عالم الجراحة الصعب من شغفه بهوايات فنية أخرى، احترفها لعقود، وأضافت إلى شهرته. فهو أيضاً موسيقي ونحات وكاتب. والعديد من منحوتاته معروضة في جميع أنحاء العالم، وفي أهمّ الأماكن، بما في ذلك مقر إقامة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في قصر الإليزيه في باريس، والبابا فرانسيس في الفاتيكان، ومايكل أنجلوس ديفيد في مجموعة متحف مادونا ديل بارتو، وكيم جونغ أون في متحف بيونغ يانغ في كوريا الشمالية، وغيرهم.
يعود تاريخ علاقته بالنحت إلى ما يفوق 25 عاماً، و"النحت فتح لي أبواباً لم أحلم بحياتي أن تُفتح لي"، يقول حكيم. وينصح الشباب دائماً بتعلّم اللغات أو النحت أو الموسيقى أو أي فن من الفنون الأخرى "فهذا الأمر يفتح لهم أبواباً كثيرة لا يتوقّعونها". ويعطي مثلاً على ذلك، عندما ذهب إلى كوريا الشمالية لنحته منحوتة للزعيم الكوري الشمالي، وعلى الفاتيكان لنحته منحوتة للبابا فرنسيس.
فبعدما أنهى دروس الطب والجراحة، وأصبح مختصاً استشارياً بزراعة الأعضاء، "كان لا بدّ من أن أقوم بشيء جديد في حياتي إلى جانب استمراري في مجال الطب الذي أعشقه طبعاً"، يقول حكيم. وكانت أول منحوتة نحتها لوالده قبل 25 عاماً، ثم منحوتة لوالدته. ورغم وفاة والده العام الماضي، يشعر حكيم كأنّ والده لا يزال موجوداً بسبب هذه المنحوتة.
بعدها، بات حكيم ينحت البورتريه للقادة العالميين دون الترويج لمنحوتاته. وكانت أولى هذه المنحوتات للملكة إليزابيث والبابا فرنسيس. وبمجرد أن طرق الباب للمرة الأولى لعرض منحوتاته، "فُتح لي الباب على مصراعيه وبسهولة وبشكل غير متوقَّع"، يسرد حكيم. وبموجب ذلك، زار حكيم الإليزيه والفاتيكان وكوريا الشمالية وغيرها من الدول والمقارّ.
ونحت حكيم منحوتة للملكة إليزابيث الراحلة عام 2004. وقبل وفاتها بأربعة أشهر، نحت لها منحوتة أخرى يظهر تفاصيل وجهها بطريقة مذهلة بتفاصيلها الفنية. وقبل بضعة أيام، وصلته رسالة من الكومنولث لشكره وتقدير جهوده على هذا العطاء الثمين الذي قدّمه للملكة. وعُرضت المنحوتة في مبنى الكومنولث وهو "أمر في بالغ الضخامة والأهمية"، بحسب حكيم.
ومن الشخصيات التي نحت لها حكيم تماثيل: ديفيد كاميرون، تيريزا ماي، دونالد ترامب، بوريس جونسون، فلاديمير بوتين، وغيرهم.
لكن ما المشترك بين الجراحة والنحت؟ يجيب حكيم أنّ "الجراحة هي فن، ولا يمكن للجراح أن يكون جراحاً إن لم يقم بعمل جميل، ويجب أن يكون العمل الجراحي نظيفاً بالشكل وبالمضمون، والأمر نفسه بالنسبة إلى النحت". ولعلّ النحت، برأي حكيم، أصعب من الجراحة، فأيّ شائبة في المنحوتة تبقى كما هي مدى العمر.
إلى ذلك، تحظى الموسيقى بجزء كبير من حياة حكيم. فبعدما تعلّم العزف على الكلارينيت في الكونسرفتوار في لبنان، تابع تعلّم العزف في الكونسرفتوار في باريس، ليصبح اليوم عازفاً محترفاً. أنتج 10 إصدارات خاصة، ويعزف مقطوعات مع آلات أخرى مثل البيانو. ويسافر حول العالم لإحياء السهرات الموسيقية.
"أنا أرى نفسي رجلاً من هذا الكوكب، وأشعر بنفسي لبنانياً في لبنان وبريطانياً في بريطانيا وفرنسياً في فرنسا، حتى إنّ نصف جذوري مالطية فوالدتي مالطية"، يقول حكيم. ويواظب على زيارة لبنان دائماً، "فلا يمكن أن أنسى لبنان". وإلى جانب زياراته للبنان، حكيم كثير السفر. وباتت سفراته لا تقتصر فقط على المؤتمرات الطبّية العلمية التي يتحدّث فيها كمتحدّث أساسي، بل أيضاً لإحياء الحفلات الموسيقية.
ولم تنتهِ مهارات الدكتور حكيم بعد. فهو كاتب نشر أكثر من 23 كتاباً دراسياً و150 بحثاً. وشغل منصب رئيس تحرير مجلة الجراحة الدولية، ومنصب عضو في هيئة تحرير مجلتي Transplantation Proceedings and Graft، من خلال دوره في قضايا الصحة العالمية.
وبحكم أنّه هاجر في عمر صغير ولمع اسمه في الخارج، يرى حكيم أنّه "وإن كان لا بدّ للشباب في لبنان أن يقرّروا الهجرة، فعليهم ألّا ينقطعوا عن لبنان". لكن برأيه الخاص، "من الأجدى البقاء في لبنان، فالأوضاع الراهنة ستتغير إلى الأفضل لا محال، وحرام إفراغ لبنان من أدمغته".
لكن وصوله إلى العالمية لم يكن بسبب إنجازه الطبي بحدّ ذاته أو بسبب منحوتاته وحدها، "فهو مزيج بين الموسيقى والنحت والطبّ، والأولى تضيف إلى الأخرى، ولو لم أكن جرّاحاً لما نظر أحد إلى منحوتاتي بهذه الأهمية، كذلك الأمر بالنسبة إلى الموسيقى التي أعرفها"، وفق حكيم.
وأهمّ درس يطبّقه في حياته، وعلّمه لأولاده الأربعة، أنّ "هناك دائماً وقتاً ويجب الاستفادة منه بالشكل المناسب، وأنا لا أضيّع وقتاً أبداً".