لا بد من أن يكون الفن في مُتناولنا جميعاً، وليس حكراً على النُخبة، جُملة أرددها لنفسي باستمرار لكي لا أشعر بالخوف حين أقف قُبالة مُخيّلة الفنانين القُرمزيّة بجنونها الشهيّ الذي يليق بالحياة.
وخلال هذه الدردشة المُمتعة مع الفنان مارون الحكيم في غاليري Art On 56th القائمة في الجميزة، سُرعان ما اكتشفت أن الفن يُمكن أن يتحوّل مُتعة حقيقيّة حتى للذين لا يُريدون بالضرورة أن "يُشرّحوا" الأشكال والألوان بأسلوب أكاديمي، بارد. جلّ ما يطلبون، هو الاحتماء في ظل العمل الفني بحكاياته المُتلألئة والمُتموّجة هرباً من شيء أو ربما بحثاً عن شيء آخر. دردشة صباحيّة على هامش معرضه الأخير: "تحية إلى بلادي".
لن نتحدث عن المعرض على وجه التحديد، بل سنذهب في نُزهة صغيرة إلى حيث ينسج يوميّاته. هُناك، حيث الطبيعة مجبولة بالشراسة والجمال الخام.
يقول لي بين رشفة من القهوة اللذيذة وأخرى، "نستطيع، على سبيل المثال، أن نتعرّف إلى الفنان فلا نُركّز فقط على أعماله. لمَ لا نحاول أن نفهم نفسيته، أو أسلوبه اليوميّ في العمل. وأنا شخصياً أقول لك ببساطة إن الفنان يُمكن أن يتسلّح بالمُخيلة ليخلق، ولكن المُخيلة وحدها، وإن أضفنا إليها التطلّعات الشخصيّة والمعرفة والثقافة، لا تفيد. وسيبقى حجم الفنان أكثر من ضئيل إلى جانب الطبيعة، وتفاصيلها وتقلّباتها اليوميّة: كل يوم وكل تكّة، وكل ساعة".
تظهر الطبيعة مراراً وتكراراً في حديثنا الصباحي المُسترخي. لا داعي للخوف، إذن، من عظمة الفن. المسألة، بالنسبة لهذا الرجل الذي يُبسّط عمليّة الخلق لتبدو أكثر تشويقاً وأقل مُراوغة، لا تتطلّب تعقيدات وفلسفة مُتعمّقة. ووحده الرقص بجموح تحت أشعّة ضوء الطبيعة يُقرّبنا بضع خطوات من العمل الفني وإن كان شاهقاً في إطلالته، "ما بينمزح معو".
وفي الحقيقة، "ما من أحد لا يستوحي أعماله من الطبيعة. الطبيعة هي أمّنا جميعاً. ولكن المسألة تتطلّب من يقدر على أن يتأمّل فيها جيداً. كل واحد منّا يمتصّ الأشياء الخارجيّة ويُحوّلها على طريقته إلى أعمال فنيّة. والأساس يبقى كل ما يُحيط بنا. وعندما أقول الطبيعة، لا أعني فقط الجبال والأشجار، بل أشمل أيضاً الإنسان". ومن هنا أهميّة الفصول واندفاعها نحو شعر الطبيعة المضفر الجامح، "وغياب الشمس، انسياب الوقت: صبح، مساء، ظهر. عندما تغيب الشمس تُسيطر العتمة، ولا يعود لدينا أيّ شيء".
الطبيعة، بشمسها، بسمائها بضبابها وهوائها وترابها، هي النبع. ولكن ما يُميّز الفنان هو كيفيّة التقاطه الأشياء التي تُحيط بنا وتركه بصمة خاصة من خلال الأعمال الفنيّة".
مصادر الفن ليست "هلقد عويصة. والفنان، كل فنان يعرف قيمة الطبيعة، يستمد إلهامه منها".
يذهب الحكيم في نظريته هذه التي تُعطي الطبيعة حقها، إلى حد القول إن "حتى الزفت والتأمّل فيه قد يحثنا على خلق التحف الفنية".
الموهبة تأتي بطبيعة الحال في الدرجة الأولى، "الله يهب الموهبة ليتمكن الفنان من أن يرى ويمتصّ كل ما يُحيط به، ويستخرج تماماً كالنحلة في وظيفتها اليوميّة، الرحيق".
الإنسان جزء من الطبيعة، وعملية الخلق هي أيضاً عمليّة "هضم الحياة. وقبل أن نستحق لقب الفنان يجب أن نستحق لقب الإنسان". والفنان أكثر من غيره، حسّاس لكل ما يُحيط به، "على أقل شغلة بيشوفها. أكرّر أن مصادر الفن سهلة ولكنها تحتاج إلى من يعرف أن يلتقطها".
وبعد التأثيرات الخارجيّة، تأتي عمليّة تطوير الذات، من خلال البحوث التي تشمل المواد التي يتوسّل بها، واختباراته داخل اللوحة، لكي تتطوّر، وتأخذ أبعادها الجديدة.
بالنسبة لمارون الحكيم "الفن هو المُنقذ"، من هذه السرياليّة التي نعيشها في الخارج، "عندما أبدأ العمل أشعر بأنْ لا مشكلة تُقلقني أو تُسيطر على أفكاري، ولهذا السبب أحافظ على هدوء أعصابي. حتى إن لم أعمل، فقد أجلس لفترة طويلة وأتأمّل اللوحة، لأعرف كيف أحلّ لغزها".
في محترفه في مزرعة يشوع، يعيش مارون الحكيم يوميّاته المُسيّجة بأريج الطبيعة. "أنا من الفنانين القلائل الذين صمدوا وخططوا لحياتهم المُستقبليّة من بداية حياتهم". سافر في بداياته وحاول أن يجعل الغربة مسكنه، و"لكنني اكتشفتُ أنني لا أستطيع أن أعيش في الخارج. عدتُ إلى لبنان. وقرّرتُ أن أعيش فيه في كل ظروفه. وبنيت المحترف قبل أن أبني منزلي. والمحترف هو في الواقع من عمّر لي البيت، وما إن أنهيت العمل عليه، حتى إجتني طلبيّة!"، وتمكّن بفضلها من أن يبني بيته.
بعض اللوحات، "أعمل عليها بهدوء (بتكتك فيها) وعندما أعمل، لا أفكر بأنني أريد أن أنجز المعارض. أعمل بكل بساطة: وبعدان منشوف. بس يخلص الشغل منقرر".