ندخل منزله كأننا في رواية مُتقنة. ومن الواضح أن مُغني الأوبرا – كونترتينور، ماتيو الخضر يُحافظ بعناية على عتق الحدائق الشتويّة الداخليّة الماكسيماليّة في شقّته البيروتيّة فخمة الديكور.
ويبدو أن القرارات الرومنسيّة (الرومنطيقيّة!) التي يتخذها في حياته اليوميّة، لها جاذبية فاخرة. صرير الخطوات التي تسير بخفة في هذا العالم الخيالي الذي خلقه هذا الشاب على سحابة. وفجأة يفتح الباب القديم هاتفاً بطيبة هادئة، "شو جابك لعنّا بهذا الطقس العاصف؟".
الانطباع الأول عن هذا المشهد الذي سنشارك فيه: الرقصة بين العالم الخارجي وهذه الحديقة السريّة، غير مُتكافئة!
وصحيح أنني كنت قد لمحته في طريقي إلى شقته نزولاً على درج الجعارة المعروف بدرج الفاندوم ( يفضي إلى مار مخايل)، وهو يلتقط بعض صور من شرفته لهذا الطقس المُتأرجح بين الشتاء وما تبقّى من صيف لم نعشه فعلياً منذ فترة طويلة، بيد أنني ضحكتُ بفرح عندما وقفتُ للمرة الأولى وجهاً لوجه مع شاب غالباً ما يُردد لي خلال حواراتنا الافتراضيّة، "أمثالنا يصنعون لبنان".
وعندما فوجئ بسعادتي "الجامحة" والمُطلقة، كظمتُ رغبتي في أن أعانقه على الرغم من أنني بالكاد أعرفه.
لاحقاً، خلال الحديث المُشوّق، اعترفتُ له بأنني شعرتُ بالارتياح لأنّ ثمة من لا يزال يخلق ويتعلّق بالبلد، ويُصرّ على توظيف طاقاته كاملة.
ثمة من لا يزال يؤمن بأن الليل، وإن اشتدّت ظلمته، لا بدّ من أن ينسحب بسكون، عاجلاً أم آجلاً وبطريقة أو بأخرى.
خلال الأشهر المُنصرمة، التقينا مرات عدة، وكانت فرصة لأتعرّف إلى مواهب ماتيو الخضر التي لا تنحصر في إطار واحد. هو في طبيعة الحال الصوت الجميل الذي اقتربنا بفضله، بضع خطوات من العالميّة في برنامج "ذا فويس" العالمي في نسخته الفرنسيّة.
وهذا الصوت، لامستُ حنيّته خلال الحفلة المجانيّة التي قدّمها في عيد الميلاد المجيد في "بيت كنز". ولكن ماتيو خضر هو أيضاً الفنان التشكيلي الذي يُشارك حالياً في معرض جماعي في غاليري "Chaos" القائمة في شارع سرسق العريق (سيكون لنا معها لقاءات عدّة). وهو عاشق لبنان الذي يُصرّ على إبراز جماله في "الستوريز" التي يُسقطها عبر حسابه الخاص على "إنستغرام" على الرغم من كونه يجول العالم بحثاً عن لحظات عابرة من الحياة.
ينطلق الحديث، بطبيعة الحال مع فنجان من "الإسبريسو" الحادّ المذاق، وتنضم إلينا كلبته "العيّوقة" التي تفرض حضورها بدلال "أرستقراطي" يليق بهذه الخلفيّة المُزخرفة بالكماليّات واللمسات الفنيّة على أنواعها.
ماتيو الخضر يُردّد اسمي بين جملة وأخرى، ربما لكي يُقرّب المسافات التي يفرضها اللقاء الأول.
ويؤكّد، بدايةً، بأنه ترعرع في كنف عائلة تعشق الفنّ.
إذاً، فإن المسألة ليست وليدة المُصادفة.
كانت نشأته في أحد القصور البيروتيّة العتيقة، "وسط عائلة عريقة، يونانيّة – لبنانيّة". أثاث أنيق، لوحات فنيّة شاهقة، وأنغام موسيقيّة تُرافق هذه المشاهد اليوميّة. وماتيو، كان كما يصف نفسه، "ولدًا حشّورًا!"
أراد باكراً أن يستمع إلى الأوبرا، وأن يقترب من حنان فيروز و"رواق" صوتها الذي يوصلنا إلى الأمان، وأن يلمس عصيان أسمهان وسلطنة أم كلثوم. لسبب أو لآخر راح يُقلّد الأصوات التي استمع إليها بشغف لا علاقة له بال"ولدنة".
"كنت أرقص الباليه وأعزف على البيانو، وأمثّل وأرسم وأغني. وأهلي شجّعوني على تنمية مواهبي".
دعمت العائلة اختلاف هذا الولد "الحشّور" الذي لا ينتمي إلى الأيام العاديّة. وعندما انتقل إلى باريس ليعزّز دراساته في الفنون الجميلة، أصرّت العائلة على أن يعيش ماتيو هذه التجربة على أصولها، فكانت له شقة في حيّ "سان جيرمان دي بريه" الجميل، وتمكّن من التركيز على موهبته في الرسم.
الوحدة التي تفرضها العاصمة الفرنسيّة الجميلة، جعلته أكثر قوّة، "دعكتني قسوة باريس".
ولأنّ أحد الأساتذة قال له، "ماتيو، أنت تملك مواهب عدّة ولكن عليك أن تركز على موهبة واحدة لتتقنها كاملة وإلّا ستعرف الضياع"، اختار في المرحلة الأولى إطلاق صوته والانسياب خلف المغامرات التي سيعيشها حتماً بفضله.
فإذا به يُدخل صوت "الكونترتينور" للرجل إلى الشرق الأوسط، وهي فئة صوتيّة نادرة جداً وتحتاج إلى تقنيّة مُحددة ليبرع فيها الرجل. وجولاته العالميّة لم تمنع حلمه بأن يعود إلى البلد الذي يعشقه ويُريد بأيّ ثمن أن يُظهر جماله في كلّ الأماكن.
وراح يُشارك في عشرات المؤتمرات في لبنان ليشرح صوته وتقنياته وليجعل موسيقى "الباروك" التي يعيشها طقسه اليومي في متناول الجميع.
ومن الواضح أنّ الخضر السريع الخاطر والظريف المعشر يحمل في جنونه الهادئ عناصر عدة ساهمت في خلق هذه الشخصيّة الفريدة من نوعها. جده عن أمه، عثمانيّ الجذور، وجدته عن والده يونانيّة. وهذه الماكسيماليّة التي تُحيط بنا داخل الشقة البيروتيّة التي لا تُشبه رعب الخارج وبرودته، هي الامتداد الطبيعي لكلّ ما عاشه ماتيو من تجارب، وكلّ المشاهد التي شارك في صنعها أو كان الرابح الأكبر لكونه وُلد وسط عائلة تُتقن فن الحياة.
ماتيو الخضر يوظّف مواقع التواصل الاجتماعي ليُدخلنا إلى عالمه الجميل وليبرز صورة لبنان الذي لم يتوقف يوماً عن عشقه على الرغم من العالميّة التي أصبحت هويّته.
ونحن، عُشّاق هذا العالم الجميل الذي يخلقه لنا، نعرف جيّداً أنه يتمرّن يومياً على الغناء، ونادراً ما يسمح للأمور الحياتيّة بأن تسلبه مُتعة الرسم، كما يُمارس الرياضة بلا توقف، ويزور كل المناطق اللبنانيّة ليستمتع بجمالها وكل ما لديها من "طيّبات" تُقدمها لنا. كون روحه حرّة جعل والدته تنمّي في داخله أهميّة الانضباط باكراً. أيقظت بداخله الاحترام الكلّي للوقت ولإتمام المسؤوليات.
والدته تضطلع بدور محوري في حياته، ومن الواضح أن حبّه لها أكبر حجماً من الحياة التي تليق به جيّداً. وقدرتها على التغلّب على صعاب الحياة المحتومة تجعله أكثر تعلقاً بها. فهي تغلّبت على مرض السرطان وقهرته وكانت تُصرّ على أن تعيش حياة عاديّة وإن كانت تخضع للعلاجات المؤلمة التي أرهقت جسدها ولكنها لم تتغلب على روحها الشغوفة. ومن أجلها يسعى يومياً ليكون أفضل نسخة عن نفسه. ولأنها "The Best Chef ever"، توقف هذا الشاب المتعدد الموهبة عن الطبخ! يضحك قائلاً، "وفي لبنان، يمكننا الحصول على أشهى المأكولات. فلم توظيف الوقت في الطبخ؟ طبخت بما فيه الكفاية!"
السفر رفيقه الدائم، "وألخّص أسفاري بالمأكولات المحليّة الشهيّة وبزيارة المتاحف والتعرّف إلى الحضارات وأبناء البلد".
ذوقه في الموسيقى انتقائي، وهو بكلّ تأكيد لن يحصر نفسه داخل إطار الأوبرا. ومن المؤكّد أننا سنستمع إلى ماتيو وهو يُغامر مع الموسيقى الإلكترونيّة على سبيل المثال.
وماتيو كعاشق؟
أوف! "Am a very passionate lover. أقدّم نفسي كاملة في كلّ المواقف. وحتى وإن كان الموقف يتطلّب المواجهات الضارية مع الشريك".
المهم، بالنسبة لماتيو الخضر، أن يُعطي أفضل ما لديه في كل ثانية يعيشها. في المرتبة الأولى بمثابة تحيّة لوالدته الرائعة التي سيكون لنا معها لقاء، ولأن الشغف طبيعته.
جولة سريعة للشقة البيروتيّة الأقرب إلى قصر صغير مُعلّق في المُخيّلة. ولكن، لسوء الحظ لا وقت لفنجان "إسبريسو" آخر.
لا بأس. قد تكون فرصة لزيارة ماتيو الخضر، مُجدداً في وقت لاحق. ليس كل يوم أن تلتقي بشخص يعيش في عالمه الخاص ويسمح لك أن تمضي معه بضع ساعات، تتخللها بعض جمل معبّرة لكلبته "كيري" العيّوقة قد تأتي على شكل، "إنت ابنتي يا مامي! إنت ابنتي! (أتفوّه بها أنا بطبيعة الحال، لأنّ غنج ماتيو أكثر أناقة و"كلاس")!