النهار

بالصّور- سوق الكُتب والحب على درج الجعارة
سوق الكتب.
A+   A-
نظرات الحياة مُتثائبة، والشتاء يُعلن باقتحاميّته المعهودة حضوره المُتغطرس بعض الشيء، وعلى أحد جدران الدّرج المعروف باسم "درج الجعارة"، الذي يوصل منطقة "الرميل" بـ"مار مخايل"، كتب أحدهم جملة مُدوّية تُلخّص عشرات الحكايات، وتنساب نحو مُخيّلتنا باندفاع أنهار هذا الشتاء المُتغطرس بعض الشيء، "صرخة صامتة، ولست وحيدة".
 
 
 
صفحات أسرارنا الذهبيّة تلمع في عيون القارئ النّهم الذي يستعدّ لمغامرات أدبيّة كتبناها مسوّدة مديدة، نهرول فيها مساءً يداً بيد مع خيباتنا.
 
والكتاب، هذا النديم الذي يواسي وحدتنا، يهتف بحكمة "لا أملك منزلاً ولكن الأبطال، هؤلاء الذين لا ينتمون، تماماً مثلي، هم منزلي الوحيد". القليل من الدهشة، إذا سمحتم، وتحيّة إلى سوق الكتب الذي تنظّمه سوق الطيب، وهو عبارة عن مبادرة أطلقت في العام 2020 بهدف "لمّ الشمل" بين عشّاق الكتب والصحافة في حدث ثقافيّ يحتضن في المكان نفسه دور الناشرين وبائعي الكتب ومبدعي القرطاسية والصحف والمجلات المحليّة في مار مخايل، وتحديداً في الطبقة السفليّة من مقرّ سوق الطيّب الرسميّ.
 
 
 
هذه النسخة الخاصّة التي نعيشها قصّة قصيرة هادئة في تطوّر أحداثها، تندرج ضمن مهرجان بيروت الدولي والفرنكوفوني للكتاب الذي أرادته السفارة الفرنسيّة، عبر مركزها الثقافي وشركائه، أن يكون - بحسب السفيرة آن غريو - الحدث الأدبيّ الجديد، الذي يحتفي بالثقافة. والكتاب يبقى النديم الذي يسمح لنا بمعاملة هذا الشتاء ببعض غطرسة وظُلم، ونختبئ بين دفّتيه عندما تتجدّد مواجهاتنا الضارية مع هذه الحياة الدنيا.
 
والقطط الشاردة على "درج الجعارة" وجدت من يواسي وحدتها، ويروي عطشها للحبّ. وفي مقرّ سوق الطيب، عشرات المنصّات التي نأخذ منها ما طاب لنا من مشهيّات أدبيّة وكماليّات وُلدت ذات يوم بفعل الحاجة المُلحّة للخلق، وربما للتعلّق بهذا الشعور العابر بأننا ما زلنا على قيد الحياة، وأن ثمة مَن يروي عطشنا نحن أيضاً للحبّ.
أو للتقدير، إذا أردنا أن نُخفّف من ميولنا الرومنطيقيّة وفروقها الدقيقة!
 
 
في هذه الزاوية داخل السوق، نزور ريان أبو خليل الذي قاده عشقه للقراءة إلى مُغامرة يُساعده فيها والداه، عندما تجبره المسؤوليات على التغيّب. والكُتب المُستعملة، التي يضعها أمامنا بالعشرات، هي الدعوة المُطلقة لنسلك دروباً جديدة.
 
كان ابن الـ27 يقرأ العديد من الكتب، فخطرت له فكرة ذات يوم أن يضعها بعد الانتهاء منها بتصرّف كلّ من يلجأ تماماً مثله إلى دفّتي الكتاب. وصحيح أنه تخرّج في الجامعة الأميركية بيد أنه أصرّ على أن يهرب من الوظيفة، وأن تكون له مشاريعه الخاصّة والمُتعدّدة، منها بيع الكُتب المُستعملة. وصار مع الوقت يشتري مئات الكُتب، ويضعها بتصرّف القارئ بأسعار لا تُقلق ميزانيته أو تُبعثر راحة باله.
 
 
 
أما مارك أبو ضاهر، العقل "المُدبّر" خلف دفاتر تحمل اسم "سكتش"، فيروي لنا بأنه يستعين بالصّور القديمة المأخوذة من المُلصقات الإعلانيّة أو الكتب والمجلات التي غالباً ما تكون في حالة "يُرثى لها"، ويُعيد تعديلها، ويتدخّل فنّيّاً وإبداعيّاً في "مسارها"، ليصنع منها الأغلفة المُناسبة لدفاتر خارجة عن الإطار الكلاسيكيّ. وهذا الحنين إلى كلّ ما هو عتيق يدفع العديد من الناس لاقتناء الدفاتر التي تُعيدهم، ولو لهُنيهات، إلى ذلك الزمن الذي لم يرحل فعليّاً بعدُ بفعل تعلّقنا بجماله ورونقه.
 
وفي الزاوية المخصّصة لدار نشر Kaph Books هي فرصة لكلّ فنّان لبنانيّ أن يعرض أعماله في كُتب أنيقة، تأخذه بضع خطوات بعيداً من الإطار الضيّق الذي قد ينحصر في داخله. قد يكون الفنان حقّق بعض نجاح أو الكثير منه، أو ما زال يُحاول أن يرسم طريقه. للفنون الجميلة وفنّ التصوير في نطاق الشرق الأوسط إطلالتها البهيّة في كُتب أنيقة، تُعطي الفنان حقه، وتجعله أكثر تعلّقاً بهذه المهنة التي تعبنا من الذين يُرددون على مسمعنا الأسطوانة عينها، "هي مهنة ما بتطعمي خبز".
 
إلى منصّة مجلة Rusted radishes التي أطلقها قسم اللغة الإنكليزية في الجامعة الأميركية في العام 2012، ومذّاك نقرأ سنوياً عدداً مُتشعّباً، يتمحور على موضوع مُحدّد يُعالج من أكثر من زاوية.
 
Mazzafanzine منصّة رقميّة تُعطي الفرصة "للفنان الطفران" والموهوب ليعرض أعماله، وليكون لجنونه والخلق، الذي يُعالج من خلاله أحاسيسه، فسحته الخاصة التي تدعمه وتؤمّن العرض الأنيق لمجمل أعماله.
 
 
 
وعبودة أبو جودة، صاحب دار الفرات، يضع بتصرّفنا الكتب المُستعملة ومُلصقات الأفلام القديمة التي يعشقها ويوثّقها منذ سنوات طويلة، أضف إليها الملصقات التي تروي لحظات محوريّة من تاريخ السياحة في البلد.
يُصرّ أبو جودة على المُشاركة في هذه المعارض الجماعيّة لأنها - على حدّ قوله - "بتعمل حركة"، وتضعه بضع خطوات أقرب من الآخرين في وقت يشعر اللبناني بأن مصيره بات العزلة في ظلّ الأوضاع الاقتصاديّة الصّادمة.
 
 
 
أما ندين توما وسيفين عريس أو "دار قنبز"، بكل بساطة، فقدّمتا "هضامة"، كما تصفها ندين، على شكل 3 كتب: "حياكة كلمات" "حياكة عدّيات" و"حياكة عبارات" – نصّ نجلا جريصاتي خوري، ورسوم جمال صالح. وبطبيعة الحال، تستقبل ندين الزوّار بكيس من القنبز الشهيّ، والأهلا وسهلا المليئة بالحياة والأمل، على الرغم من الضربات المُتتالية التي يعيشها واقعنا منذ سنوات. تصرّ ضاحكة على أن لا وقت لديها لتضطلع بدور "البومة". وعلى الرغم من إعجابها بهذا الحيوان الذي أسيء فهمه عبر التاريخ. الآن وقت العمل والمضي قدماً.
 
 
 
القليل من الدهشة إذا سمحتم!
 
والكثير من القهوة، وبعض المعجنات المصنوعة "بالبيت". دردشات جانبيّة لا علاقة لها بالفواتير المُتراكمة وأصوات المولدات التي تستريح مُباشرة وسط الصدر.
و"كمشة قنبز"، نمزمزها ونحن نصعد "درج الجعارة"، الذي يستقبل المقاهي والأحرار الذين يرتدون التمرّد والعصيان وكلمة "كلا" ثوب يوميّاتهم.
 
ولا ننسى القطط الشاردة التي وجدت مَن يعطف عليها تماماً كما وجدنا نحن في الكتب والقرطاسية والملصقات والمجلات، التي تُزخرف هذا اللاشيء الذي نعيشه قدرنا، لحظات عابرة من الحنان والدفء. ولكن، وبطلب من ندين توما، "ما في محلّ للنّق. الآن يجب أن نُغرّد".
 
ولكلّ واحد منّا طريقته في التغريد.
 
ويبقى الكتاب، النديم الأكثر وفاءً، الذي لا يواسي وحدتنا فحسب، بل يجعلها أكثر نُبلاً وأكثر جمالاً، ويجعلنا نشعر بأننا أثرياء، وإن كنا في الواقع أشدّ فقراً من القطط الشاردة التي وجدت الحبّ على درج الجعارة.
 
 
 
 
 
 

اقرأ في النهار Premium