النهار

مُخيلة تعكس الأساطير ولا تروي بالضرورة القصص (صور وفيديو)
هنادي الديري
المصدر: "النهار"
مُخيلة تعكس الأساطير ولا تروي بالضرورة القصص (صور وفيديو)
إعلان.
A+   A-
قد تبدو لوحاته للوهلة الأولى انعكاساً طبيعيّاً للحكايات الخرافيّة التي زخرفت طفولتنا طويلاً، وبعضاً من كوابيس صبانا، وأحلام يقظتنا التي نستبدل من خلالها حياةً لا تخلو بالضرورة من المسرّات؛ ولكنه يصرّ على أنّها نابعة من خياله!

المُخيّلة، هذه السحابة التي نضع آمالنا في عروة سترتها كزينةٍ خلفيّة لجنوننا، تستوعب ترنّح الفنان الأرميني الكبير دارون موراديان في حلبة السورياليّة...وعشقه للسيجار!
 
 
روايات قصيرة مأخوذة من يوميّاتنا نغفل عن وجودها لفترات طويلة، وفجأة نستحضر طيفها ما أن نزور لوحات ابن ييريفان، الذي يصرّ على أنّه لا يروي القصص من خلال أعماله.

هل من مُحتاج إلى الكلمات في حضرة عشرات الصور التي تنساب من اللوحة الواحدة؟!
يصرّ ابن يريفان على أن الأعمال لا تروي بالضرورة القصص، ولكنّها تُجسّد ومضات عابرة من مُخيّلته النابضة بالشخصيّات الخُرافيّة والأسماك العملاقة والملابس "الغريبة الأطوار"، والطيور التي قد تتّخذ شعر هذه السيّدة نصف العارية مسكناً لها، والأخرى التي تنتظر أن ينمو صغيرها في داخل البيضة – الحُضن، بصبرٍ لا يخلو من الانفعال!
 
 
ولا أحد يعرف بمَ تُفكر هذه السيّدة صارمة التعابير وهي تُدخّن غليونها (الذي لا ينفث الدّخان) من دون أن تُزعج نفسها بأحكام الآخرين المُسبقة. ربّما كانت تنتظر تدفّق خيوط الفجر الأولى، أو تتعمّق في هذه الأحجية التي تُدعى الحياة. وقد تكون مُنهمكة في تصويب الأخطاء التي يرتكبها الواقع بحقنا جميعاً، "يومَك – يومَك".

دارون موراديان لن يتدخّل بيننا وبين هذا العالم الذي خلقته مُخيّلته. وضعه بتصرّفنا، وطلب إلينا أن نتواصل مع شخصيّاته المأساويّة – الهزليّة وفق ما يُمليه علينا مزاجنا في اللحظة.

فلنسترجع من خلالها ذكرياتنا لنتسلّى، أو لنكتفْ بالمرح "الساذج" الذي يمرّ بنا مرور الكرام بين "طرفة" حياة وأخرى.

ضميره مُرتاح. جلّ ما يُريد هو أن يسمح لنا باستراق النظر إلى أروقة مُخيّلته.

و"نِعم" المُخيّلة!
 
 
"الزيتونة باي" تضجّ بالراغبين في الاستراحة قليلاً من ثقل الأيام، والطقس، بحسب إحدى الشابات التي تُدخّن "نَفس" النارجيلة بسكينة في مقهى يُشرف على "المارينا"، "تواطئ معنا. تجاوب مع حاجتنا المُلحّة إلى القليل من الحياة".

دارون موراديان يروي لنا بين رشفة وأخرى من الإسبريسو مقاطع من حياته.

نحن في غاليري "أراميه" العريقة المُتخصصة في الفنّ الأرميني. وصحيح أن المعرض الجماعي Masterpiece Show يضمّ أعمال أبرز الفنانين في أرمينيا حالياً، بيد أنّ الشريك المؤسّس في الغاليري والقيّم عليه، مايكل فاييجيان، يضطلع بدور المُترجم للحديث مع أحد أبرز نجوم العاصمة يريفان، دارون موراديان.

وصحيح أن هذا الأخير يروي لنا مُقتطفات من حياته باللغة الأرمينيّة، بيد أن تعابير وجهه تشي بكلّ ما يُريد أن ينقله إلينا هذا الصباح الشتويّ المُشمس.
و"نِعم" المُخيّلة!
 
 
 
هي زيارته الأولى لبيروت. يُعتبر في بلده الأم من ألمع الفنانين المُعاصرين. والده كان بدوره فنّاناً، ولطالما حلم بأن يتّخذ أحد أولاده الفن رفيق أجمل الأيّام وأكثرها قسوة.

ولسبب أو لآخر، وضع "ثقله" على دارون، وكان طموحه الكبير أن يبرع نجله في رسم طريقه في الفن، و"يفشللو خلقو"! وكان يطلب إليه يوميّاً قبل الذهاب إلى عمله أن يرسم لوحة أو أخرى مأخوذة من كتاب "Hermitage" الملحميّ، ليسمح له من بعد إنهاء هذا الواجب اليومي بأن يلعب ويتعلّق بطيف ما تبقّى من الطفولة.

يهتف دارون باللغة الأرمينيّة، "وهيك صرنا Artist".

يؤكّد أنه لم يختَر هذا الأسلوب الفنيّ السوريالي – الهزليّ ليمضي معه أيامه. طبيعته الداخليّة أملت عليه أوامر المُخيّلة. لم تُلهمه مدرسة فنيّة مُحدّدة.

جلّ ما يعرفه أنه قبل أن يستهلّ الرحلة مع الشخصيّات والكائنات الخُرافيّة يجلس في محترفه الذي يُحكى عنه الكثير في يريفان، يُراقب بتمعّن الكانفا البيضاء التي تستعدّ لاستقبال عالم الأساطير والقصص الخرافيّة التي يُصرّ دارون على أنها لا تروي القصص!
 
 
وبطبيعة الحال يُدخّن السيجار وكأن لا شيء أبعد من هذه اللحظة.

بعد يومين أو أكثر بقليل، يُغادر حلبة المُخيّلة وتبدأ عمليّة الرسم،

وتولد الشخصيّات التي تتأرجح بين المأساويّة واللحظات الكوميديّة العابرة. والعمل الواحد يتطلّب الكثير من العمل والتركيز، وهو مؤلّف من أكثر من طبقة، ويولد من الألوان الزيتيّة التي يرى دارون أنها غنيّة في بُنيتها، وتليق بعالمه المُركّب، حيث لم يرغب يوماً في أن يستبدلها.

الموسيقى تصدح في كلّ أرجاء مُحترفه الذي يزوره عُشّاق الفن وهواة تجميعه من مختلف أنحاء العالم.

هذا المحترف الذي يحمي مُخيّلة دارون قصّة كاملة بحدّ ذاته. وابن يريفان، الذي يحمل في دمه "عروق القاهرة" من ناحية والدته الأرمينيّة – المصريّة، نادراً ما يشعر بحاجة لمُغادرته أثناء النهار؛ فهو يجد فيه كلّ ما يحتاج إليه ليخلق، وليحلم، وليزُر المُخيّلة متى شاء. "يُمكن القول بكل راحة بال إنني أقطن في المحترف".
 
 
عرض دارون أعماله السوريالية طوال 18 عاماً في إحدى فسحات العاصمة الباريسية الذائعة الصيت، ويُعتبر من أبرز الفنانين وأكثرهم طلباً في إسطنبول، كما تحضنه غاليري "أراميه" وتنشر أعماله في مختلف المعارض التي تُقيمها عالمياً.

يُسافر باستمرار، ويزور المتاحف والغاليريهات، يقرأ عن الفن ويُتابع التغيّرات التي تقرع بابه. يستسيغ مدرسة النهضة الفنيّة المُنبثقة من هولندا.

زيارته الأولى للبنان "فتحت شهيّته" لزيارات مُقبلة لهذا البلد الذي استقبله وفنه بحفاوة. "زيارتي فاقت كلّ التوقّعات. هي بكلّ تأكيد ليست الزيارة الأخيرة. شخصيّة هذا البلد جميلة".

وشخصيات دارون موراديان لا تطلب منا بالضرورة أن نجد الحلول للمشكلات التي نخلقها لأنفسها، وقد لا يعتبرها كُثر "سليمة التفكير". ولكنها دعوة شهيّة للانغماس في الجنون بمختلف طبقاته.

نُراجع من خلالها ذكرياتنا لنتسلّى أم نكتفي بالمرح الساذج الذي تولّده فينا؟
في الحالتين، لن يتدخل دارون موراديان في أحاديثنا (أحاديث الهوى؟).

وفي هذه اللحظة بالتحديد، ننهمك في تذوّق حلوى "الماكارون".

[email protected]
 
 
 
 
 
 
 
 
 

اقرأ في النهار Premium