بين العجز عن متابعة قراءة سطور فاطمة فؤاد حتى النهاية، والتردّد في الضغط على فيديو مقتل الشاب علي العزير في ملهى ليلي، فضّلت إطفاء هاتفي. وضعت رأسي تحت ملجئي المفضّل، الوسادة، أغمضت عينيّ بشدّة حتى لا تفلح المشاهد في التسرّب إلى مخيّلتي، وغفوت على أمل أن أستيقظ في مكان آخر أكثر أماناً.
لا، لم يكن الملل من هذه القصص، ولا الاعتياد على الأخبار السيئة ولا كان ألم العينين الذي زارني منذ فترة، بل كانت هذه المرة محاولة الهروب من الإمعان في التفاصيل.
شهيق زفير، أحاول أخذ الأمور في المنحى الذي اعتدت عليه، أضغط، اقرأ المزيد وأتراجع، أدخل لمشاهدة الفيديو وأيضاً أتراجع، ما كل هذا التردّد والفوضى؟!
ثقيلة فكرة أن يستكثر عليك وطنك أن تبدأ نهارك بفنجان قهوة، سيجارة والقليل من صوت فيروز. ثقيلة فكرة أن تستجدي الأمان في أماكن من المفترض أن تكون ملاذك الآمن: مسرح، حانة، أو حتى الأرصفة!
ثقيلة فكرة "شحادة" الفرح، والأمر مفزع للغاية، أن تبدأ يومك بجريمة قتل ورواية اغتصاب مروّعة بـ"محتوى حسّاس" حتى لا ينخدش حياء المنافقين، مدّعي الانفتاح وتقبّل الآخر ووو...
هي حفلة صراخ وبكاء لا تنتهي، وإحساس دائم بالعجز بانتظار ساعة الصفر، هي معركة نمرّ بها على نحو شبه يوميّ، نقرأ، نحزن، نغضب وننفعل ثم نهدأ، نحاول أن ننسى، نخفي خوفنا من الأمر التالي... ماذا لو كنا نحن؟!
العناوين الـcatchy ومحاولات خلق نوع من الـsuspense لم تفلح هذه المرة في إغوائي لمعرفة المزيد. حسناً، ماذا سيكون عنصر المفاجأة؟ إنها فقط "بضع طلقات" والقليل من "المحتوى الحساس" حول حادثة اغتصاب، والكثير الكثير من الكآبة والحزن الدائمين اللذين أحاول عبثاً الهروب منهما.
لا جديد. فما نقرأه يومياً أصبح كأنّه معدّ ومصوّر مسبقاً، ولكن مواعيد العرض تختلف، كاختلاف الشخصيات من باب التنويع. فنحن لسنا الجيل الذي يقرأ المستقبل ولا نملك رفاهية انتظاره أصلاً، إنها فقط أحداث بتنا ندرك حدوثها بل نوقن ذلك كالذي بات يعلم بالغيب.
حدث ما حدث مع فاطمة وعلي، أحدهما قد رحل والآخر يحاول النجاة من مستنقع القرف والوساخة والأمراض الذي غرقنا فيه بكامل إرادتنا بعيداً من كذب المفجوعين والمصدومين والمتضامنين موقتاً.
ففي دولة السلاح المتفلّت وتجار المخدرات و"مرّقلي تامرّقلك" والمسايرة وتمسيح الجوخ، كيف لنا أن ننصدم!
لنجرؤ مرة واحدة ونقُلْها حتى لو بصوت الجبناء المختبئين خلف العادات والقيم والمجتمع والمثاليات الرنانة، نحن شركاء في ما يحصل، وكنا نعلم بحدوثه وانتظرناه انتظار المتلهّفين للموت. فنحن نملك شجاعة التنمّر والانتقاد والسخرية والتملّق ونملك شجاعة القتل أيضاً، لكننا لا نملك شجاعة قول الحقيقة.
أصبحتُ في حالة خصام مع بيروت وشوراع بيروت وكآبة بيروت وعوز بيروت. أصبحت أكره بؤسها واستسلامها وأكره كل هذا التعلق بها. أكره وجوه المارّة الممسوحة بالدهشة، أكره قتلة علي ومغتصبي فاطمة. أصبحتُ أخاف البقاء هنا، وأخاف ألا أغادر...